[الأمر بالسكينة والوقار فيه الحث على التبكير إلى الصلاة]
فعلى هذا ينبغي أن يكون المجيء إلى الصلاة حينما تسمع المؤذن على المنارة يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح.
أما إذا تأخرت إلى أن جاء الأذان الثاني وهو الإقامة وما بعدها فقد قصرت وتأخرت، وقد عاتب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه عثمان رضي الله تعالى عنه لما جاء متأخراً.
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي تخطى رقاب الناس: (اجلس؛ فقد آذيت وآنيت) ، و (آنيت) : تأخرت في المجيء بعد الأوان، و (آذيت) : تخطيت رقاب الناس، وحرمة الناس عظيمة، فكذلك هذا المسبوق هذا الذي تأخر يضطر إلى أن يدرك بعض ما فات بالجري.
ففي هذا الحديث أدب من آداب الإسلام، وهو حسن السمت والوقار للمسلم، ولذا جاء في بعض النصوص: (إياكم وهيشات الأسواق!) ، أي: المرج والحركة والذهاب والمجيء بدون نظام هذا في أسواق الدنيا، أما أسواق الآخرة -وهي المساجد- فيجب أن يكون فيها الهدوء والسكينة والطمأنينة.
وبعض العلماء يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: (وعليكم السكينة والوقار) : إن الذي يأتي إلى الصلاة من خروجه من بيته إلى أن يقف في الصف هو في صلاة.
قالوا: إذن ينبغي عليه مادام حكمه حكم الذي في الصلاة أن يتأدب بآداب المصلي، ومنها السكينة والوقار، وجاءت الأحاديث أيضاً وفيها أنه إذا تطهر في بيته وخرج إلى المسجد لا يرفع رجله اليمنى إلا بحسنة، ولا يضع رجله اليسرى إلا بتكفير خطيئة، إلى أن يأتي إلى الصلاة، ويكون قد حطت عنه ذنوبه، وتكون الصلاة له نافلة.
وجاءت النصوص أيضاً أن من فاته شيء من الصلاة فأتمها فله أجر الجماعة كاملاً، ومن جاء ووجد الناس قد صلوا وصلى وحده أو ومعه غيره فقد أدرك ثواب الجماعة بنية مجيئه وبقدر اجتهاده، ولكن لا يستوي مع من جاء قبل أن تقام الصلاة وقام مع الإمام من أولها.
فالحديث فيه من آداب الإسلام، ففيه حث المسلم على الوقار، وتعويده على حسن السمت في هيئته ومشيته، وفيه أيضاً الحث على المبادرة إلى الصلاة أو إلى المسجد قبل أن تقام الصلاة، وفيه أيضاً الحرص على إدراك الجماعة من أول وقتها، وفيه أيضاً أن حسن السمت يساعده على أداء الصلاة بحضور القلب واجتماع الحس والشعور، والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بكليته، ومن هنا أيضاً نأخذ الحكمة في أنه صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي؛ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) ، ومعلوم أنه إذا كانت درجة واحدة فلا تكون إلا لواحد، ولن تكون إلا لسيد الخلق وأحب الخلق إلى الله، وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
فالمؤذن ينادي ويقول: (الله أكبر) بأعلى صوته ليصل الصوت إلى أكبر عدد من المسلمين، ونحن حين نسمع المؤذن نقول مثلما يقول، وذلك لنستشعر عظمة الله فتسيطر على قلوبنا وحواسنا، وفي هذا تهيئة عظيمة لأداء الصلاة على أتم وجه في جماعة، وبحضور قلب وسكون.
يقول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:٩] فالمؤذن ينادي البائع في سوقه، وينادي الصانع في مصنعه، وينادي النائم في بيته، وينادي الزارع في مزرعته، وكل يعمل في أمر دنياه، حتى يسمع داعي الله، فإذا ما سمع لأول وهلة (الله أكبر) أربع مرات فإن كان في مزرعة يرجو ثمارها فالله أكبر، وإن كان في مصنع يرجو إنتاجه وربحه فالله أكبر، وإن كان في بيع وشراء ويرجو ربح تجارته فالله أكبر، وإن كان نائماً مستغرقاً في نومه فالله أكبر.
وهكذا يستجمع كل حواسه وشعوره، ويكون مسيطراً عليه جلال (الله أكبر) .
فهل يتأخر هذا عن النداء؟ لا، وهل يأتي غافلاً؟ لا.
ثم يأتي قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) فيقول: وأنا أيضاً أشهد.
فما دمت تشهد فحي على الصلاة وهلم؛ لأن الصلاة لمن يشهد الشهادتين، ثم يقول: (حي على الفلاح) ، و (الله أكبر) في آخره تأكيد لما مضى، ثم (لا إله إلا الله) .
فإذا كان الحال كذلك، ونفضت يدك مما كنت فيه، وتوضأت وتوجهت إلى المسجد، فإذا أقيمت الصلاة فإذا بك غير الشخص الذي كان في محل عمله، وإذا بك في صف الصلاة لست ذاك الصانع الذي يعمل، ولا ذاك التاجر الذي يطفف الكيل أو الوزن، وقمت وتركت ونفضت يدك عن كل ما كنت فيه وقلت: الله أكبر.
ولذا يقول الغزالي في الإحياء: ورفع اليدين حذو المنكبين لينفض بظهر كفيه دنياه وراء ظهره، ويُقبِل بكليته إلى ربه.
فهذا الحديث يجرنا الكلام فيه إلى المبادرة، وإلى السكينة، وإلى الوقار، وإلى ما تفيضه الصلاة على المصلي.
ونقرأ في قصص بعض الأشخاص أنه إذا دخل في الصلاة لا يعي ما حوله، وأحد السلف كان في المسجد فسقط ركن المسجد ولم يشعر به، ولما سلَّم وفرغ وجد غبرة، فقال: ما هذه؟ قالوا: أما دريت؟ سقط ركن المسجد.
فأتوها وعليكم السكينة والوقار.
ومن المبادرة إلى الجماعة ما جاء في ترجمة سعيد بن المسيب أنه لم تفته تكبيرة الإحرام في المسجد النبوي أربعين عاماً.
وبعضهم يقول: ما صلى في غير الصف الأول أربعين عاماً.
وبعضهم يقول: ما أذن المؤذن إلا وهو في مكانه في المسجد عشرين عاماً.
ومن هنا تتفق كتب التاريخ على أنه في وقعة الحرة لما خلت المدينة، وتعطلت الصلاة في المسجد النبوي ثلاثة أيام للفتنة كان سعيد بن المسيب يأتي وحده إلى جوار الحجرة، ويسمع الأذان من داخل الحجرة في جميع وقته في الصلوات الخمس.
وأما كيف يسمع ومن يؤذن فهذا أمر غيبي، وهو معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكرامة لهذا التابعي الجليل.
والذي يهمنا المبادرة إلى المساجد، وجاء في الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله منهم: ورجل قلبه معلق بالمساجد) .
فعندما نشاهد حالة بعض الناس إذا كبر الإمام وركع، يركضون كأنهم في سباق، فلا حاجة إلى هذا كله، ففي الحديث: (ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) .
ولذا في بعض روايات أبي بكرة: (زادك الله حرصا ولا تَعُد) أي: لمثل هذه الصورة، أو (ولا تُعِد) صلاتك؛ لأنك قد أدركت الركعة وأدركت الصلاة.
فإذا سمعتم الإقامة فامشوا، أي لا تركضوا ولا تسرعوا ولا تسعوا، وامشوا إليها مشياً.
قال: (فما أدركتم فصلوا) ، (ما) هنا عامة، فالذي أدركتموه من الصلاة صلوه، فإذا أدركت الإمام راكعاً فاركع، وإن أدركته ساجداً فاسجد، وإن أدركته في التشهد فاجلس، وسيأتي التنصيص على هذه الحالة.
فهذا الجزء الأول وهو كيفية الإتيان إلى الصلاة، فينبغي أن يكون على حالة السكينة والوقار؛ لأن الإسراع قد يخل بالمروءة، فيخرج الإنسان عن سمته ووقاره، وأعتقد أن الناس طبقات، فهناك من يجري أو يقفز على عصا، ولا يعيبه أحد، وهناك من لو أسرع قليلاً لفت الأنظار إليه.
فالناس طبقات، وكل بحسبه عند الناس، ولكن عند الشرع الكل سواء، فينبغي للشاب أو الشخص العجل أن يتأدب بأدب الإسلام، ويحترم مجيئه إلى الصلاة، ولا يجعل حرصه يحمله على الإخلال بآداب الإسلام.
فإذا دخل من الباب وكبر الإمام راكعاً فلا يجري ولا يركض من أجل أن يدرك الركعة؛ لأنه يكون قد أخل بشيء من آداب الصلاة، وضيع أكثر مما كان يفوته ما لو مشى على سكينة ووقار.