[ما يقوله المحرم على الصفا والمروة والبدء بالصفا]
قال المؤلف رحمه الله: [ (فلما دنا من الصفا قرأ: إن {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:١٥٨] .
أبدأ بما بدأ الله به) ] .
والمناسبة هنا هي مثل التي هناك في المقام في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:١٢٥] وكأنه يشير إلى المناسبة، وهنا لما صعد على الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة:١٥٨] يعني: أنه ذكر الآية التي تنص على السعي.
قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:١٥٨] .
شعائر جمع شعار، وجمع شعيرة، والشعيرة هي: النسك، والشعار هو: العلامة المظهرة، كما تقول: شعار الشركة الفلانية كذا، وكذلك هنا الصفا والمروة من شعائر الله، وجميع مناسك الحج من شعائر الله.
قوله: [ (أبدأ بما بدأ الله به، فرقى الصفا حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحّد الله وكبره) ] .
وحد وكبر، وحد عنوان لقوله: لا إله إلا الله، هذا هو التوحيد، وكبر قال: الله أكبر، وكبر من ألفاظ النحت، تقول: كبر، وسبح، وحمدل، وحوقل، فكبر أي: قال: الله أكبر، وهلل قال: لا إله إلا الله، وحوقل قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهكذا سبحل قال: سبحان الله، فهذه ألفاظ يسمونها ألفاظ النحت.
قوله: [فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير] .
وهنا عيّن الذكر الذي يقال على الصفا كما عيّن الذكر الذي جاء في التلبية وهو: (لبيك اللهم، لبيك لبيك لا شريك لك) .
إلخ، وكذلك هنا وحد الله وأعلن أن الملك كله لله.
قوله: [لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده] .
في هذا تذكير بغزوة الأحزاب (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده) أي: بنصر دينه ونبيه والمسلمين، وقد جاءت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:٩] فهذا وعد الله والنصرة بالفعل، ((وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا)) والجنود هنا غير الرياح؛ لأن الرياح مذكورة وحدها، وجنود الله لا يعلمهم إلا الله كما قال سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:٣١] .
وقد جاء في حديث حذيفة في غزوة الأحزاب أن الملائكة شاركت في القتال، ففي قصة حذيفة حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم؟) ولشدة البرد والجوع والخوف لم يتحرك أحد، كما قال حذيفة: فلم يتحرك أحد، ثم قال صلى الله عليه وسلم في المرة الثانية: (من يذهب فيأتيني بخبر القوم وأضمن له العودة؟) فلم يتحرك أحد، وفي الثالثة قال: (وأضمن له العودة ويكون رفيقي في الجنة) فما قام أحد، فتتبع الحاضرين واحداً واحداً حتى إذا وقف علي وقال: حذيفة.
قلت: نعم، وكنت أتقاصر إلى الأرض، فلما سماني لم يكن لي بد من أن أقوم، فقمت وأنا أقرقر من البرد أي: يرتعش وأسنانه تدق في بعضها، قال: وهو ملتف في مرط لأهله فضمني إليه، فوالله! لكأنني في حمام، وقال لي: (اذهب وائتني بخبر القوم، ولا تحدث حدثاً حتى تأتيني) فذهبت.
وهو خبر طويل وفيه عند رجوعه قال: (لقيت عشرين رجلاً معمماً على خيل، فقالوا لي: أخبر صاحبك بأن الله قد كفاه) وهؤلاء العشرون المعممون على هذه الخيل من أين جاءوا؟ لو كانوا من جيش المسلمين لعرفهم حذيفة، فإذاً: هؤلاء ليسوا من جيش المسلمين، وليسوا من جيش المشركين، فهم فريق ثالث، فمن يكون؟ لاشك أنهم من الملائكة.
إذاً: نصر الله عبده وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، هزمهم بتسليط الريح عليهم، وبالجنود التي لا يعلمها إلا هو.
قوله: [ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة] بعد ما أدى نسك الصفا والذكر الوارد في ذلك نزل إلى المروة، والسنة هنا في السعي هي أن يستغرق الساعي كامل المسافة بين الغايتين، يبن الصفا والمروة، فكيف يتحقق الشخص أنه قد استغرق البينية؟ والبينية نهايتها من الطرف الأول الصفا ومن الطرف الثاني المروة؟ لا يتحقق الإنسان من ذلك إلا إذا صعد على جزء من الصفا، ومشى وأتم المشوار وصعد على جزء من المروة، فإذا كان قد أخذ في مشواره جزءاً من الصفا وجزءاً من المروة جزمنا يقيناً أنه قد استغرق بينية ما بين الصفا والمروة.