نأتي إلى هذا الباب الذي معنا:(أكثروا) وهذا عام للرجال وللنساء، حتى إن العلماء عندما اختلفوا في زيارة النساء للقبور لحديث:(لعن الله زوارات القبور) وجاء حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) واو الجماعة في قوله: (فزوروها) هل يشمل النسوة، أو يبقى النسوة على المنع؟ فقالوا: إن في الحديث معنى يجمع بين الرجال والنساء وهو قوله: (فإنها تزهد في الدنيا وتذكر بالآخرة) فكما أن الرجل في حاجة إلى ذلك فكذلك المرأة في حاجة إلى ما يذكرها بالآخرة، فتكون مشمولة بالإذن، والمعروف عند علماء اللغة أنه لو وجد ألف امرأة ورجل واحد فإنهم يخاطبون جميعهم بواو الجماعة تغليباً للمذكر.
وكلمة:(أكثروا) تفيد الأمر بالتكرار، ولا تكون للغفلة، لكن من الصعب أن يوضع شريط على أذن الإنسان ليظل يذكره: اذكر الموت اذكر الموت ولكن لا تطل الغفلة، ومن هنا كلما صلينا على جنازة، فتلك دقة جرس جديدة، وتنبيه جديد، إذاً:(أكثروا من ذكر هاذم اللذات) ألا وهو الموت.
وإذا نظرنا -أيها الإخوة- إلى إلزام الخلق بحق الخالق سبحانه، فلن نجد أقوى من الموت:{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الواقعة:٨٣-٨٧] ولن يستطيعوا إرجاعها: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف:٣٤] ويقصد المعنى اللغوي بالساعة ستين دقيقة بل تصدق على لحظة، فلا يملكون حتى التأخير ولا التقدم، وأنت لو جلست وتأملت وتذكرت هذه الآية الكريمة {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ}[الواقعة:٨٣] فهناك الحشرجة في الصدر؛ لأن الموت يبدأ من القدمين، ثم يسري إلى الساقين إلى الفخذين إلى البطن إلى الصدر فتحشرج الروح أو النفس في صدره وحلقه، ثم تفيض إلى باريها، في تلك الحالة وهم حوله ينظرون، ولا يملكون له من قطمير، ولا نَفَساً واحداً يستطيعون أن يزيدوه:{فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}[الواقعة:٨٦] مدينين يعني: مغلوبين، مدانين، عاجزين، ومنه:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:٤] يوم الحساب والجزاء {إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}[الواقعة:٨٦] غير ميتين ولا محاسبين، {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة:٨٤-٨٥] صحيح نحن لا نرى، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:١٦] .
{فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الواقعة:٨٦-٨٧] لا والله لا تستطيعون إرجاعها، {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ}[الواقعة:٨٨] ما مصيره؟ {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}[الواقعة:٨٩-٩١] يقول المفسرون: منذ أن تفيض روح المؤمن ويرى النعيم، يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عن طريقه وصل إلى هذا الحد، وبعضهم يقول: هذا سلام من الله باسم رسوله يأتي من الموتى، والأول أظهر وأوضح، والله أعلم.
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ}[الواقعة:٩٢] عافانا الله وإياكم.