[حكم التلبية ورفع الصوت بها وصفتها ووقتها]
ولما صعد على البيداء أهل ولبى، وفي بعض الروايات: (أهل بالتوحيد) لأن التلبية في الحج هي بمثابة الأذان في الصلاة، وكل منهما يرفع فيه الصوت إلا المرأة لا ترفع صوتها، وقد جاء الحديث في رفع الصوت قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) .
وصيغة التلبية هي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) هذا لفظ حديث جابر في بيان تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويذكر بعض العلماء زيادة عن عبد الله بن عمر: (لبيك وسعديك والخير كله بيديك، والرغباء إليك والعمل) ، ويذكر بعض العلماء أن الإنسان بعد التلبية يسأل الله المغفرة، ويسأله الجنة، ويستعيذ به من النار إلى غير ذلك من المسائل التي يحرص عليها المسلم عقب كل قربة إلى الله سبحانه.
وأما حكم هذه التلبية فيقول بعضهم: هي ركن في الحج ولو مرة، وبعضهم يقول: هي واجبة، ولا خلاف في ذلك، فمن قال: إنها ركن نظر إلى النية؛ لأنه في التلبية قد أهلّ بحج، يعني: نوى الحج، فإذا اعتبرنا أن التلبية في أول الأمر نية للنسك فهي ركن ولا شك في هذا، وإن اعتبرنا أن النية محلها القلب وإنما التلبية إظهار وبيان لنوع النسك الذي اختاره الملبي، فتكون واجبة، ويقولون: للإنسان أن يلبي أو يسبح أو يكبر إلى أن يأتي البيت ويرى الكعبة، فإذا رآها قطع التلبية؛ وذلك لأن معنى التلبية السمع والطاعة والإقامة على طاعة الله، كما يقال: لبى بالمكان بمعنى أقام فيه، وتكون جواباً للنداء، فإذا ناديت وقلت: يا زيد! فإنه يقول: لبيك، أي سمعت وأطعت وأنا مقيم ومستديم على طاعتك، فإذا كانت (لبيك) إجابة للداعي، والحاج إنما خرج مجيباً للداعي الذي دعاه وهو في عالم الذر، والداعي هو إبراهيم كما قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج:٢٧] فنادى إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس: (أيها الناس! إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه) وقد سأل إبراهيم ربه فقال: (يا رب! أنا إذا ناديت أين يبلغ صوتي؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ) ، وأبلغ الله سبحانه نداء إبراهيم إلى كل من أراد الله له الحج إلى يوم القيامة، فأجابوا وهم في عالم الذر في أصلاب الآباء، ومن لبى النداء مرة حج مرة، ومن لبى أكثر حج بعدد ما لبى نداء إبراهيم عليه السلام، فحينما تقول: (لبيك) فأنت تجيب الداعي، والداعي هنا هو قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:٢٧] فأنت الآن تجيب حينما جئت إلى عالم الوجود، وكلفت وأردت أن تؤدي ما عليك من فريضة الحج.
وقوله: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك) هذا هو التوحيد وهو بمعنى: لا إله إلا الله، وقد كان العرب في الجاهلية يقولون: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) فإذا كان هو لله، والله يملكه وهو لا يملك شيئاً، فلماذا تعبدونه؟ اتركوه وأخلصوا التلبية لله وحده، لكن هكذا كانوا يقولون، وهكذا نقل إلينا.
وقوله: (إن الحمد والنعمة) الحمد هو: الثناء على المحمود لكمال ذاته، لا بشيء يصدر منه إلى الحامد، واللغة فيها الحمد، وفيها الثناء، وفيها الشكر، وكلها ثناء على المحمود والمثنى عليه والمشكور، إلا أن الحمد ثناء على المحمود لكمال ذاته ولو لم يصلك منه شيء، وكمال الذات ليس إلا لله سبحانه وحده، وليس في الكون ولا في المخلوقات من هو كامل لذاته، بل هو مكمَّل من غيره، ولابد أن فيه جانب نقص، حتى الرسل أقل ما يقال فيهم: أنهم ماتوا، والموت نقص، والمولى سبحانه وتعالى حياته دائمة باقية.
والحمد هو: الثناء على الله سبحانه وتعالى، ولهذا يقولون: (أل) في قولك: الحمد لله للاستغراق، أي: تستغرق جميع المحامد التي يمكن أن يحمد الله تعالى بها وتكون لله وحده، والثناء يكون على حسن فعال المثنى عليه، كأن يصنع شيئاً ويبرز فيه، مثلاً: رأيت عمارة جيدة، وأعجبك التصميم والتنسيق الذي فيها فأثنيت على المخطط لها أو المنفذ لها لحسن فعاله لا لكماله في شخصه، ولكن لحسن فعله ولو لم يأتك منه شيء، ومثله لو اخترع إنسان دواءً نافعاً، أو جهازاً صالحاً للناس، أو خدمة للناس، فتثني عليه لحسن فعاله ولو لم يأتك منه شيء.
وأما الشكر فهو يكون في مقابل ما يصل إليك ممن تشكره، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، فتشكر الله على نعمة العافية ونعمة الرزق ونعمة العلم ونعمة التوفيق، وعلى كل ما جاءك من الله من النعم، وكذلك تشكر زيداً؛ لأنه خدمك في كذا، أو ساعدك في كذا، فتشكره مقابل ما أسدى إليك من النعم، فتشكر الشخص على ما أتاك منه من خير، وتثني على الشخص على ما يفعله من حسن فعال، ولو لم يكن لك، وتحمد ولا يكون الحمد إلا لكمال الذات، ولا يكون ذلك إلا لله.
وقوله: (إن الحمد والنعمة) النعمة هي: كل ما فيه نعومة: كالعيش والرخاء والصحة والمال، كل ذلك فيه نعومة الحياة؛ لأن الشخص إذا توفرت له الأموال توفر له الغذاء، واكتملت له الصحة، وكانت حياته ناعمة، بخلاف ما إذا كان في شظف من العيش، أو كان في مرض، أو كان في شدة فحياته تكون خشنة، فالنعمة من النعومة التي يطمئن إليها الإنسان، ويركن إليها ويستريح بها، وكل ما في الوجود من نعمة فهي من الله كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:٥٣] وقال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:٣٤] أي نعمةٍ؛ لأن النكرة إذا أضيفت إلى معرفة دلت على العموم {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:٥٣] و (من) هنا جاءت قبل النكرة للتعميم، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:٣٤] ، فهي تفوق الحد وتفوق الحصر، والإحصاء مأخوذ من الحصر: كالعد من واحد واثنين وثلاثة إلى ما لا نهاية، فإذا جاء الإنسان ونظر في شخصه فقط، وفيما أنعم الله عليه في ذاته وفي تكوينه من بصر وسمع وتذوق وحركة فلن يستطيع أن يحصي هذه الفضائل والنعم التي أنعم الله تعالى بها عليه.
وهنا قال: (إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) أي: إن كمال الذات لا يساويك يا رب! فيه أحد ولا شريك لك في ذلك، وكذلك في نعمك على خلقك ليس هناك من هو شريك لك في الإنعام، فالحمد والنعمة لك، والملك لك تتصرف فيه كيف شئت لا شريك لك.
وهنا يقال: إذا أعلنت على ملأ العالم، وسمع وشهد الحجر والشجر والمدر والجن والإنس أنك تقر بأن الحمد والكمال لله سبحانه، وأن كل نعمة على منعم عليه بها فهي لله لا شريك له، فهل يليق بك أن تتوجه بعد ذلك إلى غير الله بتزلف أو ثناء، أو بطلب أو باستعانة، أو برغبة فيما عنده؟! هذا الذي تتوجه إليه هو من مخلوقات الله، وكل ما عند المخلوق نعمة من الله، فلماذا تذهب إلى هذا المخلوق الذي أنعم الله عليه، ولا تذهب إلى المنعم سبحانه؟ ولهذا فإن في التلبية تجديد التوحيد لله سبحانه وتعالى.
وقوله: (إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) هكذا ذكر لنا جابر رضي الله تعالى عنه صيغة التلبية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الطويل.
وقد أشرنا إلى أن ابن عمر كان يزيد: (لبيك وسعديك، والملك كله بيديك، والرغباء إليك والعمل) (الملك كله بيديك) فلماذا تسأل مخلوقاً هو نفسه من ملك الله؟! (والرغباء) أي: الرغبة إليك، لا نرغب إلى غيرك؛ لأنك أنت بيديك الخير وغيرك محتاج إليك، (والعمل) أي: نعمل العمل خالصاً لك وليس لغيرك.
وبالنسبة للتلبية يقول الفقهاء رحمهم الله: ليستمر الحاج في التلبية، كما نقول: مثل الشريط المسجل: لبيك لبيك لبيك طول الوقت، ويقولون: لا يتركها بالكلية، ولا يشغل جميع أوقاته بها فيشق على نفسه، وقالوا: يحسن به أن يجدد التلبية عند كل تجدد حال له، فكلما تجدد له حال جدد التلبية، فمثلاً: إذا كنت تمشي فأدركت ركباً فهذا حال جديد، فأعلن التلبية، وإذا وجدت أمامك وادياً منحدراً فنزلت هذا الوادي فهذا أمر جديد فعليك أن تجدد التلبية، وإذا صعدت من الوادي إلى مرتفع فهذا حال جديد فعليك أن تجدد التلبية، وإذا نزلت منزلاً للمقيل أو للطعام أو لشيء من ذلك فهذا حال جديد فجدد التلبية، وإذا أردت أن ترحل من هذا المكان فهذا حال جديد فجدد التلبية، وهكذا تكون التلبية عند كل حال متجدد للحاج أو للمعتمر.
وتستمر التلبية كما أشرنا مع المعتمر إلى أن يرى الكعبة، ثم بعد ذلك حينما يحرم في يوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) عليه أن يجدد التلبية لحجه إلى أن ينزل من عرفات إلى المزدلفة وإلى أن يصل إلى منى، ويصل إلى جمرة العقبة.