[حكم التيمم بغير التراب مما هو من صعيد الأرض]
[وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم: (وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء) ] .
من فقه المؤلف رحمه الله أنه جاء باللفظ الأول: (وجعلت لي الأرض) ، والأرض عامة، ثم جاء باللفظ الآخر: (وجعلت تربتها) يقولون: إن التربة والأرض سواء، وتربة كل جزء من الأرض بحسبها، يقال: هذه الأرض تربتها خصبة، وهذه الأرض تربتها رمل، وهذه الأرض تربتها حصى، وهذه الأرض تربتها صخر، فتربة كل مكان بحسبه.
إلا أن البعض قال: (تربتها) نوع خاص منها هو الذي يمكن أن يكون منه التيمم، وهنا سنبدأ في تخصيص عموم الأرض، ويبين ذلك الأثر الذي يأتي بعد هذا، وهو عن علي عند أحمد: (وجعل التراب لي طهوراً) ] ، وهذا نص صريح، والتراب متميز عن أجزاء الأرض من غيره؛ لأن الأرض ليست كلها تراباً، وكذلك الطين، والرمل الأبيض الناصع، والحصا والصخرة الملساء، فالتراب: ما كان من الأرض صالحاً للزرع والإنبات، وكان له غبار.
فمن هنا لوجود هذه الروايات هناك من أخذ بالعموم وقال: يصح التيمم على جميع أجزاء الأرض، كـ مالك وأبي حنيفة رحمهم الله.
وقال الشافعي: لابد من وجود تراب، وإذا وجد التراب ولو في غير الأرض صح التيمم، كما يقول النووي رحمه الله: لو جاء إلى كيس من الحب معرض للهواء والغبار والتراب، أو إلى مفرشة مليئة بالغبار، فضرب عليها، وتصاعد غبار التراب من هذا الكيس أو من هذه المفرشة؛ صح التيمم عليه؛ لأن الغرض هو التراب.
والجمهور يقولون: إن الله يقول: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:٤٣] ، فلا بد من القصد للصعيد، وهو وجه الأرض.
إذاً: العلماء مجمعون على مشروعية التيمم، ولكنهم اختلفوا في هل عموم الأرض على النص الأول العام أم على التربة؟ وهل التربة تتميز عن عموم الأرض؟ وإذا كان التراب على جدار أو على كيس أو على مفرشة أو نحو ذلك فهل يصح التيمم؟ فـ الشافعي رحمه الله أخذ بأثر علي، وجعل التراب حيثما كان ولو لم يكن مباشراً للأرض؛ لأن التراب عوض عن الماء.
والآخرون قالوا: الذي يصح منه التيمم هو وجه الأرض؛ لقوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [النساء:٤٣] ، والصعيد: ما تصاعد وارتفع عن وجه الأرض، حتى قال المالكية: صعيد الأرض ولو كان حجراً أملساً، فلو أن صخرة بالوادي كانت مليئة بالتراب وجاء السيل وغسلها، ثم جاء إنسان في وقت من الأوقات ولم يجد ماء، ووجد تلك الصخرة الملساء، فإنه يصح التيمم عليها ولو لم يكن بها ذرة غبار ولا تراب.
إذاً: إلى هنا بيان اختلاف العلماء رحمهم الله في نوعية ما يصح منه التيمم من الأرض، وهم مجمعون على أن جميع أجزاء الأرض تصح الصلاة عليه، فلو كان هناك إنسان في قمة جبل، ثم حان وقت الصلاة، فلا نلزمه أن ينزل إلى بطن الوادي ليصلي، بل يصح أن يصلي في قمة الجبل ولو كان أملساً مثل الرخام المنعم.
وقالوا: كما تصح الصلاة وتكون الأرض مسجداً بعمومها وجميع أنواع أجناسها، سواء في رملة، أو في حصوة، أو في صخرة، أو في تراب، أو في غير ذلك، فكذلك الطهور قرين المسجد، فعنده مسجده وطهوره، فإذا كان عنده مسجده والأرض صخرة ملساء وقلنا: لا يصح التيمم، صار عنده مسجده فقط، وعليه أن يبحث عن طهوره، وهذا ينافي الحديث.
وعلى هذا يكون الراجح من هذه الأقوال: أن أي جزء من أجزاء الأرض بطبيعته فإنه يصح التيمم عليه كما تصح الصلاة فوقه.
والمؤلف لم يذكر من الخصائص الخمس إلا اثنتين، ثم قال: (وذكر الحديث) ، أي: أن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه ذكر بقية الحديث، ولكن المؤلف اقتصر من الحديث على ما هو محل الشاهد هنا، وهو قوله: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، وما دام أن المؤلف قد ذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) فلا بأس أن نقف على بقية الخصال الخمس التي اختص بها خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه.