[النعم التي لا كسب للإنسان فيها]
يقول العلماء: ثلاث نعم لا كسب للإنسان فيها، بل هي محض إنعام من الله عليه: الأولى: إيجاد الإنسان من العدم فأنت -أيها الإنسان- قبل أن توجد إلى الدنيا طفلاً؛ ماذا عملت حتى جئت إلى الدنيا؟ لم تعمل شيئاً، فإن قلت: أبواي عملا، نقول لك: على رسلك، أبواك سعيا لقضاء حاجتهما، ولكن هل كل التقاء رجل بامرأة يأتي منه ولد؟ لا، قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:٤٩-٥٠] إذاً: إتيان الإنسان إلى هذا الوجود نعمة من الله لا كسب له فيها.
النعمة الثانية: نعمة الإسلام، فالإنسان إذا كان مسلماً، ولو كان له ألف جد في الإسلام، فإن الإسلام نعمة من الله عليه، وقد رأينا الذين عاشروا عصر الرسالة والدعوة، فمنهم من أسلم، ومنهم من مات على الكفر؛ فهي منح من الله، وكما نعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) فاختار الله عمر بن الخطاب على أبي جهل عمرو بن هشام.
إذاً: كان هناك اختيار من الله، وقضية إسلام عمر مشهورة.
وهكذا إلى أن تقوم الساعة، وكما جاء في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسان أو ينصرانه) .
إذاً: أنت حينما ولدت، وقدر الله مجيئك إلى الدنيا، هو الذي قدر مجيئك بين أبوين مسلمين، أو نصرانيين، أو يهوديين، فالمولود الذي يولد بين أبوين مسلمين؛ هل كان له كسب في هذا الاختيار؟ وهكذا المولود الذي ولد بين أبوين نصرانيين: هل كان له كسب اختيار الأبوين؟ ليس لأحد في هذا اختيار.
إذاً: كل هذا من عند الله، وكونك تولد من أبوين مسلمين؛ أول ما يطرق سمعك: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، الله أكبر، قد قامت الصلاة، لأن المولود عند ولادته يستحب أن يؤذن في أذنه اليمنى، وأن تقام الصلاة في أذنه اليسرى، فاختيارك بين أبوين مسلمين، نعمة أعظم عليك من نعمة ولادتك؛ لأن من ولد بين أبوين غير مسلمين يتمنى لو لم يكن وجد، كما قال الله: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:٤٠] ، ولكن المسلم موته امتداد لحياة أخرى.
النعمة الثالثة: دخول الجنة كما جاء في الحديث: (والله! لن يدخل أحدكم الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) ، يقول العلماء في هذا: والأعمال هذه التي عملها الإنسان في عمره إذا كان عمره عشرين، أو خمسين، أو ستين، أو سبعين سنة، من صيام وعبادات، قالوا: هذه لا تعادل نعمة الأعضاء التي في جسمه، مدة ستين أو سبعين سنة، أذنه يسمع بها ستين أو سبعين سنة، قلبه ينبض في صدره ستين أو سبعين سنة، ولم يدفع في هذا أي مقابل، قال الله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١] فلو قابلنا عبادته بما أنعم الله عليه في نفسه وفي جسمه؛ لما وفى حق جسمه الموجود، فضلاً عن نعمة الإسلام التي لا يوازيها شيء.
إذاً: عمله لا يوازي أن يكون ثمناً للجنة، وإنما هي منحة من الله سبحانه، وأما قوله تعالى: {أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:٤٣] ، فكما كنا نسمع والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: المهم هو دخول الجنة بفضل من الله، فإذا دخلوا الجنة فهناك يختصمون كيف شاءوا، ولكن المهم بطاقة الدخول، كما لو كان عندنا مثلاً وليمة ترسل فيها بطاقات يكتب في أسفلها: الرجاء عند الحضور إبراز هذه البطاقة، فإذا دخلت بالبطاقة هل هو محضور عليك موطن من مواطن الدعوة؟ الجواب: لا، المهم أنك قد اجتزت بالبطاقة؛ لأن البطاقة أتتك من صاحب الوليمة وصاحب الدعوة والاحتفال، تفضل بها إكراماً لك أن تحضر هذا الحفل، فإذا حضرت لا يحضر عليك فاكهة ولا طعام ولا شيء مما هو في الوليمة، ولله المثل الأعلى، فقالوا: دخول الجنة فضل من الله، وقالوا: كل إنسان من بني آدم له مقعدان؛ مقعد في النار إذا كفر، ومقعد في الجنة إذا أسلم، كل واحد من جميع الأمم، وهذا يؤيده الحديث: (إذا مات ابن آدم، ووضع في القبر، إن كان مسلماً فتح له باب إلى النار فيقال: هذا مقعدك لو لم تسلم ثم يقفل عنه، ويفتح له باب من الجنة يقال: هذا مقعدك يوم القيامة فيقول: يا رب! أقم الساعة، أقم الساعة، -والعكس- إذا كان كافراً فتح له باب إلى الجنة، ويقال: هذا مقعدك لو آمنت، ثم يقفل عنه ويفتح له الباب الثاني فيقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة) ، وكما في الحديث الآخر: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) .
إذاً: كل إنسان له مقعد مهيأ في كلا الدارين، فإذا دخل أهل الجنة الجنة؛ فمقاعدهم في النار هل تكون خالية أو أن أحداً يحل محلها؟ وإذا دخل أهل النار النار فمقاعدهم في الجنة هل تكون خالية أو أن أحداً ينزلها؟ الجواب: لا تكون خالية، إنما بعد أن يستقر كل فريق في منزله -نسأل الله العافية والمعافاة، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يجيرنا وإياكم من النار- فتلك الأماكن التي خلت من أهلها في الجنة، وذهبوا عنها إلى النار، تقسم على أهل الجنة، وهل تقسم على مبدأ المساواة؟ الجواب: لا؛ لأن أهل الجنة ليسوا على مرتبة واحدة، وإنما (بما كنتم تعملون) ، فمنهم من يعطى مقعدين، ومنهم من يعطى ثلاثة؛ لأنه في درجة عالية، ومنهم من يحصل على مقعد واحد، ومنهم من لا يأخذ شيئاُ، ويكتفي بمقعده فقط، كما ورد في خبر آخر من يدخل الجنة: (آخر من يخرج من النار رجل يقول: يا رب! قربني من الجنة، وباعدني من النار، ولا أطلبك شيئاً غيره، فيقول له: لك مثل الدنيا ومثله معه ... ) .
إذاً: هذا الميراث أو التوارث إنما هو على درجة الأعمال بعد أن يستحقوا الدخول، أما قبلها فالدخول فضل من الله، وقد جاء في الحديث ويذكره العلماء في باب الشفاعات من كتب العقيدة: (أول من يطرق باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول خازن الجنة: من؟ فأقول: أنا محمد، فيقول: نعم أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) .
إذاً: ثلاث نعم لا كسب للإنسان فيها، وهناك نعم أخرى قد لا يكون لك كسب فيها، بل تكون منحة من الله، كما جاء في الحديث الثاني: (جاءني جبريل فبشرني - بماذا بشره؟ - بأن من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشراً) ، هل هذه من عند رسول الله؟ الجواب: لا، وإنما هي منحة من المولى سبحانه وتعالى، وتكريماً له ولأمته في فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: سجود الشكر من دواعي الاعتراف بالنعمة، وإذا تأملنا تعداد النعم على المصطفى صلى الله عليه وسلم نجد أن في آخرها السجود: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:١-٣] ، وقد كنا دائماً نتأمل في أنواع القسم في القرآن وظهر لنا -والله تعالى أعلم- أن كل قسم مع المقسم عليه بينهما ارتباط وثيق جداً، وهذا حري بأن يبحث بحثاً علمياً متقصياً، وعلى سبيل المثال: