قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه فأفلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) رواه مسلم] .
في هذا الحديث أن رجلاً أصيب في ثمار ابتاعها، وشارح هذا المتن يربط بين هذا الحديث وبين حديث وضع الجوائح بعموم:(أصيب في ثمار ابتاعها) أي: اشتراها، والواقع أنه ليس بين الحديثين ارتباط، وليس بينهما تعارض، وموضوع ذاك الحديث أنه اشترى الثمار بعد بدو صلاحها، ولا زالت على أصولها، فأصابتها جائحة، فأمر صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح، وهذا الحديث أصيب في ثمار ابتاعها، أي: اشتراها فلحقته ديون، وليس في هذا الحديث ذكر الجوائح، لكن أصيب في ثمار، والإصابة في الثمار أعم من كونها جوائح وهي على رءوس النخل، وفي مثل هذا أحب من طلبة العلم أن يرجعوا في الحديث الذي فيه مثل هذا الإشكال إلى مرجعه، فإذا قال المؤلف ابن حجر مثلاً: رواه أبو داود، فنرجع إلى أبي داود لننظر كلام الشراح عليه، فيكون القول هناك أولى من قول شارح جديد على أبي داود.
موضوع هذا الحديث أن الرجل اشترى ثماراً، وأصيب في ثماره، وما نوع الإصابة؟ لم يحدد لنا الحديث نوعها، وهل هي من الجوائح أم لا؟ فأمر صلى الله عليه وسلم الناس أن يتصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، ولكن ما جُمِع من الصدقات لا يسدد الديون التي عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه:(خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) يعني: في الوقت الحاضر ليس لكم عليه وليس لكم عنده إلا ما وجدتم، ماذا يفعل؟ لا يوجد إلا هذا، وهل معنى هذا إسقاط بقية حقوقهم؟ لا، بل الطلب يرتفع عنه في الوقت الحاضر، وليس لهم عليه إلا هذا الموجود، فإذا أيسر فيما بعد فعليه قضاؤهم، وذمته لا زالت مشغولة، فعليه أن يوفي أصحاب الديون بقية حقوقهم، ويتفقون على هذا في المفلس وغير المفلس.
الشارح هنا يقول: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم للناس أن يتصدقوا عليه يتعارض مع الأمر بوضع الجوائح، وهذا لا تعارض فيه، ويقول: إن الأمر بالصدقة إنما هو جبراً لخاطره، وتخفيفاً للمصيبة عليه؛ لأنه أصيب في الثمار، لكن الإصابة المذكورة في هذا الحديث لا نعرف نوعها، وهل هي من الجوائح أم لا؟ لأن وضع الجوائح معروف مسمى، واتفقوا أن الجوائح هي الحوادث العامة مثل: ريح عاصفة، برد ينزل ويتلف الزرع، مطر شديد، آفة من آفات الزراعة، غرق، حريق، فالجائحة محددة بأحداث عامة، والخطابي في شرح السنن يقول: إن إصابته في ثماره لم يذكر فيها جائحة، فقد يكون أصيب في ثماره بعد أن اشتراها، نضجت وجذها ووضعها في الجرين ينتظر تجفيفها، وخرجت من عهدة صاحب الشجر، فأصيبت وهي في الجرين، مثلاً: جاء لص فحملها، أو باعها على إنسان ولم يدفع له الثمن، أو فاض عليها ماء فغرقت، قال: إصابة تلك الثمار لا تتعين أن تكون بجائحة على رءوس النخيل، أو على رءوس الشجر، فيحتمل أن تكون قد أصيبت بما أصابها بعد أن استوعبها، وانقطعت علاقته بصاحب أصول النخيل، وأصبحت في عهدته وفي جرينه، إذاً: لا علاقة لصاحب الأصول هنا بوضع الجوائح؛ لأن الجائحة لم تكن في زمن عهدته، بل هي بعد أن انفصل عنه بجني الثمر ونشره في الجرين، وانتظار إدخاله في مستودعاته، فلا علاقة لصاحب النخيل البائع بالجائحة.
ويكون أمره صلى الله عليه وسلم للناس بالتصدق عليه من باب الإرفاق ومن باب التخفيف عليه، ولكن كل الذي جمعوه من الصدقة لا يفي بدينه، والناس غير ملزمين بسداد دينه:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}[التوبة:٩١] ، وكل تطوع بما جادت به نفسه، وكان المجموع لا يفي بالدين، إذاً: هذا الحديث لا علاقه له بوضع الجوائح، فلا حاجة لأن يربط به، وأن يتطلب الجمع بينهما؛ لأن كلاً منهما مستقل عن الآخر.
ونفهم من هذا أن من أفلس أو أعسر في دين، فإن كان عنده شيء بيع وسلم للغرماء، فإن وفى بالدين الذي عليه فبها ونعمت، وإن لم يف فليس لغرمائه عليه طريق، وأشرنا إلى قضاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه لما طلب الغرماء أن يحبس المدين لهم، فقال: لا، لأن حبسه ليس فيه فائدة له ولا لأهله ولا لكم أنتم، فلماذا نحبسه وليس في الحبس فائدة؟! وكذلك معاذ رضي الله تعالى عنه لما طلب غرماؤه حقوقهم، باع النبي صلى الله عليه وسلم ممتلكاته، ولم تف بالدين، فقال:(ليس لكم إلا هذا) ، وبعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن لعله يصيب شيئاً.
فمن هنا نعلم أن المفلس الذي لا يجد ما يسدد دينه ننظر: ما كان زائد عن ضرورياته، مثل ثيابه، مسكنه، مركبه، مأكله ومشربه، آلات صنعته التي يتعيش منها، فهذا لا يباع في الإفلاس بالدين؛ لأنه أحق بذلك لحياته، وما زاد عن ذلك يباع، فإذا لم يف بالدين أطلق سراح المدين ليسعى ويعمل، وليس للغرماء متابعته ولا حبسه؛ لأن ذلك لا يفيد أحداً شيئاً، فإذا يسر الله عليه، وتيسر أمره نقول له: سدد ما بقي عليك في ذمتك.