[حكم الصلاة في النعلين]
هذا الموضوع يهم في الدرجة الأولى طلبة العلم؛ لأن العامة لا يصلون في النعلين تحرجاً، والذي يفعل ذلك -خاصة في هذه الآونة- هم بعض الإخوة طلبة العلم؛ لحديث: (خالفوا اليهود وصلوا في النعال) ، وحديث: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر أسفل نعليه) ، وفيها أمر بالصلاة في النعلين.
وأنبه إلى الرجوع في هذا إلى معالم السنن، وإلى شرح السنة، أو إلى سنن أبي داود، أو إلى سنن الترمذي، أو إلى فتح الباري، أو إلى شرح ابن دقيق العيد للعمدة فسنجد حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنه سئل: هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه؟ فقال: نعم.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من شاء فليصل في نعليه، ومن شاء فليخلعهما) ، وعلقوا على ذلك لأن هذا ناسخ للأمر الذي جاء في حديث: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر أسفل نعليه) ، قالوا: (فليصل) هنا أمر، نسخه عن الوجوب قوله: (إن شاء) .
قال ابن دقيق العيد في مبحث دقيق نقله عنه ابن حجر في فتح الباري: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم المسجد) ، وكذلك ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، حيث كان في فتح مكة -وقيل: بالمدينة- فقرأ بأول سورة المؤمنون، وأخذته كحة فاختصر القراءة، وقد أمره جبريل أن يخلع نعليه فخلعهما، فخلعوا نعالهم، فلما سلم قال: (ما حملكم على خلع نعلكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا.
قال: أما إنه أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن في نعلي أذى فخلعتهما) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر.
إلخ) ، فهذا تتمة لحديث جبريل عليه السلام.
قال بعض العلماء: جبريل عليه السلام أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بعد أن دخل في الصلاة، وفي رواية من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه جعلهما عن يساره، ثم قال: (إذا خلع أحدكم نعليه وصلى فلا يجعلهما عن يمينه، ولا عن يساره فيؤذي بهما جاره) ، وفي بعض الروايات: (لا يجعلهما عن يمينه ولا عن يساره فتقع عن يمين جاره) ، وعلّق على ذلك الخطابي بأن هذا من باب احترام الجوار، واحترام الصلاة.
لذا ينبغي أن يجعل الإنسان في الجانب الأيمن أفضل النعلين.
قال صلى الله عليه وسلم: (وليجعلهما بين قدميه) ، فهذه هي السنة في وضع النعلين، فإذا كان يريد ابتداءً أن يصلي، ويريد أن يضع النعلين فلا يضعهما عن يمينه؛ لأن هذا -كما يقال- ليس من الاحترام الكامل، ولا عن يساره فيأتي أحد فيصلي بجواره فتكون نعليه عن يمين هذا المصلي فيؤذيه بها، ولا تلقاء وجهه؛ لأنه إذا سجد ستكون أمامه، فيكون هذا المنظر غير لائق بالصلاة، ولكن ليجعلهما بين قدميه.
قالوا: هناك جزء مضى من الصلاة قبل أن يخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء جبريل وأخبره بالأذى، فلو قدرنا أن الأذى كناية عن النجاسة فكيف يُقَرُّ النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوقع جزءاً من صلاته وهو متلبس بنجاسة، وكان الأولى أو الأنسب أو المتوقع أن يبادر جبريل عليه السلام فيخبره قبل أن يدخل في الصلاة بتلك النجاسة؛ لأن الأكمل في حقه صلى الله عليه وسلم أن يكون أطهر وأبعد من هذا كله؟ قالوا: كلمة (أذى) لا تحمل على النجاسة؛ لأنها لو كانت نجاسة لكان النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر صلى بنجاسة، وهذا لا يليق، ولا تصح الصلاة به، وكذا قال البيهقي في السنن: يحتمل قوله: (قذى أو أذى) أنه طاهر يستقذره الناس، أو طاهر مستقذر.
قال ابن دقيق العيد: قوله في الحديث: (فليحتهما، وليصل فيهما) ليس دليلاً على استحباب الصلاة في النعلين، وإنما هو إباحة بمعنى الرخصة، وقال: أما كونه مستحباً فليس بوارد؛ لأنه ليس من الزينة التي أمرنا بأخذها عند المساجد في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:٣١] ، فإن كان داخلاً في معنى الزينة فهو مطلوب ومستحب، ولكن النعل يلامس الأرض، ويخالط الأذى والقذى، فيضعفه ذلك عن منزلة الاستحباب، ولا يدخل في الآية.
وقال: إن إزالة النجاسة هي المرتبة الأولى في التشريع؛ لأنها من درء المفاسد، ودرء المفاسد إنما هو في الضروريات كما يقال، وأخذ الزينة هو الدرجة الثانية، والتشريع يدور حول درء المفاسد وجلب المصالح من التحسينيات والكماليات إلى كل ركن في الإسلام.
والاستحسان يدخل في جميع العبادات، وهو الترقي بتلك العبادة، فمن باب الاستحسان أخذ الزينة، وكمال اللباس، والعناية بالنظافة، وطهارة الثياب والمكان طهارة كاملة، وقد جاء في الحديث: (ما على أحدكم أن يتخذ ثوبين للجمعة سوى ثوبي مهنته) ، وكذلك أن يغتسل، وأن يتطيب، فهذا استحباب، والأصل هو صلاة الجمعة.
فدرء المفاسد بتجنب النجاسات هو درجة أعلى، وأشد طلباً من درجة الاستحسان والكمال، فالحفاظ على ترك النجاسة أولى في التشريع وأهم من الحفاظ على الزينة في اللباس.
قال: فليس هناك داعٍ إلى الصلاة في النعلين، إلا إذا كان داخلاً في عموم قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:٣١] ، وهذه هي الدرجة الثانية في التشريع، وتجنب النجاسة هي الدرجة الأولى في التشريع.
قال: وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على استحباب الصلاة في النعلين، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل قال: (إن شئت فاخلعها، وإن شئت فصل فيهما) .
ونحن في هذه المسألة بحاجة إلى التوسع والاستقصاء؛ لما يحدث فيها من أخذ وعطاء مع بعض الإخوة الغيورين على السنة، وهم يقولون: إن التعليل هو قوله عليه الصلاة والسلام: (خالفوا اليهود وصلوا في النعال؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم) .
فما دام ان ابن دقيق العيد يقول: الصلاة في النعلين ليست مستحبة، وغيره يقول: هي مسنونة -كما قال الشوكاني الذي جمع كل هذه الأقوال التي أشرت إلى مراجعها، وانتهى إلى أن الأصل المشروعية- فنقول: الأصل جواز الصلاة في النعلين، وهي مشروعة، ولكن مع التحفظ من وجود أذى أو قذى، ولو كان لابس الخفين وفوق الخفين نعلان يباشر بهما الأرض فإنه يصلي بالخفين ولا غبار على ذلك، ولا أحد ينكر عليه.
أما النعلان اللذان يباشر بهما الطريق، ويدخل بهما بيت الخلاء فإنه قد يتساهل في نظافتهما، ولا يكفي أن ينظر فيهما ويحتهما في التراب، فهل هو بهذا الحت قد طهرهما؟ فالأئمة رحمهم الله اختلفوا في تحقيق المناط في تطهير النعلين بالحت حتى ذهاب عينها وذهاب لونها وذهاب رائحتها، وهناك من يقول: هذا في اليابسات وهناك من يقول: يحتمل أن يكون هذا في الطاهر المستقذر.
فالأحوط أنه لا حاجة إلى الإصرار على الصلاة في النعلين، مادام أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى منتعلاً وصلى حافياً، أي: صلى على كلتا الحالتين.
ولو أن إنساناً في سفر نزل في أرض فلاة وهو بنعليه، فنظر فيهما فلم يجد فيهما أذى ولا قذى، ولا يستطيع أن يصلي على الحصباء؛ لأنه يتأذى من ذلك فنقول: يصلي في نعليه لهذه الحاجة، ولا مانع من ذلك، فإذا لم يكن هناك حاجة فليخلعهما.
فالصلاة في النعلين رخصة يباح فعلها، والرخصة معللة بقوله: (خالفوا اليهود) ، فهل نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟ أشرنا أنها لا تدخل تحت هذه القاعدة؛ لأنه ليس هناك الأمر المطلق بالصلاة في الخف، وإنما لعلة بذاتها، والذي يهمنا الآن هو تنبيه الإخوة ألا يجعلوا هذه المسألة مثار خلاف ونزاع بينهم.
ومن الحكمة النبوية الكريمة أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يترك الأمر الذي يحبه ويتقرب بفعله لما يترتب عليه من مفاسد أخرى، ومن ذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعلى عنها عندما سألته أن يدخلها الكعبة لتصلي فيها، فأخذ بيدها وقال: (صلي في الحجر؛ فإنه من البيت) ، وذكر أن قومها قصرت بهم النفقة عن إقامة الكعبة على قواعد إبراهيم، فتركوا من البيت جزءاً حجروا عليه حتى لا يضيع في المسح، ثم قالت: ما بال الباب مرتفعاً؟ قال: (ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا حداثة قومك بكفر لهدمت الكعبة، ولأقمتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين: باب للداخل، وباب للخارج، وسويتهما بالأرض) ، فهو رغب أن يجعل الكعبة على تلك الحالة، ولكن ترك ذلك مراعياً ما يترتب عليه من رد الفعل في نفوس قريش؛ لأنهم كانوا حدثاء عهد بشرك.
وكذلك لما شرب من بئر زمزم قال للسقاة: (انزعوا يا بني عبد المطلب؛ فلولا أن يغلبكم الناس لنزعت معكم) ، فرغب أن يأخذ الدلو ويسقي نفسه، ولكن خاف أن يأتي كل مسلم فيقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نزع بالدلو فأنا أنزع مثله، فإذا أراد جميع الحجاج أن ينزعوا بالأدل فيسغلبون السقاة على زمزم.
فكان صلى الله عليه وسلم يترك الشيء الذي يرغب فيه خوفاً مما يترتب عليه، وهذا يسميه علماء الأصول سد الذرائع، وهو ترك الجائز مخافة الوقوع في الحرام، والأصل فيه من كتاب الله قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:١٠٨] ، فلو أنكم سببتم أصنامهم فهذا ليس فيه مانع، وهي تستحق ذلك، ولكن إن فعلتم ذلك فنتيجة ذلك أن يسبوا الله، فلو أنكم سببتم آلهتهم سبوا إلهكم.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: وهل يسب الرجل أباه؟ قال: نعم.
يسب أبا الرجل فيسب أباه) ، فهو السبب في سب أبيه.
وأذكر قصة لشخص أشهد الله أني أراه على الفطرة، وهو إنسان فيه خير كثير، وكانت مخالطته للناس قليلة، وكان يحافظ على الصلوات جماعة، وكان يلبس نعلين كبيرتين ويصلي بهما، وكان معه عصا منحنية يتوكأ عليها، ففي يوم من الأيام في صلاة العصر صلى بجانبي، وعكس ا