[ذم احتقار المهن والأعمال]
ثم جاء هذا الحديث ليرشد إلى العمل المنتج عيب في عمل اليد الذي يستعف به صاحبه؛ لأن بعض الناس يعيبون بعض المهن، ويحتقرون الأعمال اليدوية، ويزدرون أشياء لا عيب فيها، فبعض الناس لو قلت له: تعال تعلم السباكة، قال: السباكة! تعال تعلم الخرازة، قال: الخرازة! هذه صفات كذا كذا، تعال تعلم النجارة، تعالَ خذ مكنسة واكنس في الشارع، وخذ راتباً وعش به، قال: أنا آخذ مكنسة وأكنس في الشارع؟! نعم لأنك ستموت جوعاً، أو تسأل تكثراً، فأيها أولى لك: أن تستغل طاقتك وصحتك في تنظيف الشارع للمسلمين، أو تتكفف الناس السؤال؟ وكيف تستعيب المكنسة ولا تستعيب من مد اليد؟! فيجب أن يكون عندك قانون مطَّرد، أنت تستحي من أخذ المكنسة؛ فيجب أن تستحي من مد يدك، اليد التي تمتد لسؤال الناس الأولى لها أن تمسك المكنسة، فهنا قال: (لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً فيحتطب) في ذاك الوقت المهن قليلة، مثل البناء والنجارة فلم تكن كثيرة، بل هي نجارة بلدية كل واحد يقدر أن يعملها، فكانت المهن محدودة، لكن الاحتطاب أمر عام، ومثله أن يحتش الحشيش من الوديان ومن الأراضي البيضاء، ويبيعه علفاً لأصحاب الدواب.
فأي مهنة يجب ألا يحتقرها إنسانٌ، مادام أن هذا العمل يعفه عن تكفف الناس السؤال، وسمى لي بعض المشايخ - الله يغفر له ويرحمه- شخصاً كنت أعرفه، وكان يعمل في السمكرة، وكان هناك الصفيح تُعمل منه أباريق للحمامات، وتعمل أوعية للسمن من الصفيح (التنك) ، وهكذا تنك التمر وتنك الزيت، وكانت براميل البترول أو الغاز يصنعون منها أدوات، وكان هذا الشخص جالساً وجواره جماعة يخرزون ويخيطون الأحذية القديمة ويصلحونها، فجاء رجل تركي، ومعه نعل من الخشب والجلد، وفيه وساخة، والسير مقطوع، فجاء لهؤلاء الذين يصلحون الأحذية ليصلحوه له، فامتنع كل واحد منهم عن ذلك لأنه وسخ! وهذا السمكري شغله في التنك، وليس في الأحذية، فنادى الرجل: تعال، تعال، ما عندك؟ قال: عندي كذا كذا، قال: هاته.
فأخذ القبقاب من طرف، وحك الوساخة التي فيه في الأرض حتى زالت عنه، ثم طلب من هؤلاء مسمارين فأعطوه فسمر الجلد في القبقاب، وأصبح صالحاً، وأعطاه نصف ريال، ونصف ريال في ذاك الوقت له قيمة كبيرة.
وهو لم يعطه نصف ريال على كونه دق المسمارين، لكن على كونه قبل أن يعمل هذا في الوقت الذي رفضه الآخرون، فقام هذا الرجل واشترى بنصف الريال تميزاً وسكراً وشاياً، واشترى جبناً، ثم أفطر هو وزملاؤه وجيرانه من نصف ريال، ثم قال لهم: لمَ تردون هذا؟ النصف ريال هذا خسارة أن تضيعوه، ونحن جلسنا هنا لخدمة الناس.
فهذا -يا إخوان- كنموذج، فأنت في صنعتك لا ترفض أن تعمل هذا؛ لأنه وسخ، الأرض -يا أخي- تنظفه، أو خذ خرقة ونظفه، فهذا الرجل ما ترفع أن يفعل هذا الفعل، وحصل من ورائه ما أفطر هو وجيرانه به.
إذاً: لا ينبغي لإنسان أن يترفع عن الأعمال، ما نشتكي من شبابنا السعودي إلا ترفعه عن كثير من مجالات الأعمال العامة، والشاب السعودي إذا تخرج وحمل شهادة -أياً كان مستواها- لا يريد إلا طاولة وتلفوناً وفنجان شاي وجريدة، هذا الذي يريده! وأما الأعمال الحرة فلا يريدها، مع أنها تدخل عليه أكثر من راتبه أضعافاً، لكن يريد أن يقال عنه: ذهب الدائرة، وجاء من الدائرة، ذهب الوظيفة وجاء من الوظيفة!! وقد شاهدنا في هذا المسجد النبوي بعض زملائنا في الدراسة، كان يصبح الواحد منهم في السوق متحزماً ويحمل على رأسه، ويساعد الفلاحين في إنزال البضائع، ويأخذ من هذا شيئاً ومن هذا شيئاً، ويجمعها ويبيعها، ويرجع إلى بيته بما يحتاجه منها، وبما اشتراه من حاجات البيت، وإذا كان بين المغرب والعشاء تجده أميراً من الأمراء، عليه ثياب مكوية نظيفة، وكوفية مكية، وغترة مهذبة، جالس أمام الشيخ، فهذا من خيرة الناس لا يترفع أن يعمل في الصباح، فهو طالب علم لا يرضى لنفسه أن يمد يده.
الحديث ليس مقتصراً على حزمة حطب لمن يريد أن يتعفف، بل الحديث مبدأ عام، وينبغي على كل إنسان عاقل أن يستعف بأي عمل، وقد ذكرنا أن على المسئولين إيجاد مجالات للعمل وللقضاء على العطالة والبطالة، لكن إذا لم يكن هناك مشاريع عند الدولة، وإذا لم تكن لديها إمكانات، فالعمل الحر واسع، من بيع وشراء أو صناعة أو غير ذلك.
قوله: (لأن يأخذ أحدكم حبلاً فيأتي بحزمةٍ) يأخذ حبلاً وفأساً كما في بعض الطرق، ولابد من فأس ليكسر به الحطب، وحبل يحزمه فيه، ويحمله على ظهره، وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أميراً على بلدة، فكان يذهب إلى السوق، ويأتي بحزمة الحطب يحملها على ظهره ويقول: افسحوا الطريق لأميركم، فهو أمير ويحمل الحطب؟! لعله ليس عنده ما يستأجر به أحداً، وكما قيل: رب السلعة أولى بحملها.
إذاً: لا يوجد عيب في العمل، كلمة (عيب) في عمل هي العيب، ولا ينبغي للإنسان أن يحتقر شيئاً، وهؤلاء الذين يغسلون السيارات لو تركناهم مفلتين في البلد ضائعين، لكانوا شراً على الناس، فهو يغسل السيارة ويأخذ له عشرة ريالات، يغسل سيارتين، ثلاثاً، أربعاً، أو أكثر أو أقل، فيقضي وقته وينفع الآخرين، ويكسب قوته، فأياً كان العمل -دون تسمية نوعٍ بذاته- فاعمله مادام ليس فيه حرام، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (من بات كالاً من عمل يده؛ بات مغفوراً له) ؛ لأنه يعمل بطاقته.
وأعتقد أني أكثرت عليكم في هذا المجال؛ لأننا -فعلاً- في حاجة ماسة إلى هذا المنهج، بصرف النظر عن حزمة الحطب، أو عن سقية الماء، وقد رأينا طلاب علم كانوا يحملون الماء في أول النهار، ثم إذا جاء وقت الدرس حضروا كما ذكرت لكم، ولا يمدون أيديهم إلى الناس، وهكذا كثير من الناس من يبدأ حياته عاملاً صغيراً، ثم يتدرج ويبارك الله في عمله، ويصبح من كبار الأغنياء.
يا جماعة! وجدنا جمعيات خيرية كثيرة، وجمعيات نسائية، وجمعيات لفئة كذا، ألا يمكن أن نوجد جمعية لإيجاد عمل للعاطلين أو للبحث عن عمل لهم أو مساعدتهم أو لإرشادهم لما ينفعهم؟ الإمكان يمكن، لكن هل يقبل أحد على هذا؟ حبذا لو أن جهة من الجهات تبنت هذه الفكرة، وكل من ليس عنده عمل يأتي إليهم، ويقول: أنا إمكاناتي كذا، أنا متعلم كذا، أنا أحسن كذا، أنا مستطيع أن أعمل كذا، وإذا كان إنسان يحتاج إلى عامل في شيء ما، يتصل بهم ويحصل على ما يريد من طريقهم، فتكون هذه الجمعية كواسطة بين المواطنين المحتاجين لعمال وبين الفارغين من العمل، وهذا يسهل الطريق، ويقرب الاتصال بين، العامل وبين الذي يريد أن يعمل عنده، لعل الله أن ييسر هذا، إن شاء الله.