للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال المساجد في صدر الإسلام]

المسجد معبد تتضاعف فيه الصلاة، والمضاعفة شاملة لكل الزيادات، وكان المعهد الأول والجامعة الأولى في كل علوم الدين والدنيا، وكان -كما يقول بعض الكتاب- المدرس الأول هو جبريل عليه السلام، فالآن في نظم الجامعات، كل مادة لها مدرس أول صاحب كرسي، وهو المسئول عن تلك المادة، فمادة الفقه أو مادة الحديث التوحيد أو الأصول يكون لها عدة أشخاص يدرسون المادة لكثرة الفصول والطلاب، ولابد في كل مادة من مدرس أول، مسئول عنها، فإذا اختلف مدرسوها في جزئية يكون هو المرجع فيها.

فيقول بعض الكتاب: كان المدرس الأول في الجامعة المحمدية جبريل عليه السلام، وكان صلى الله عليه وسلم يتلقى عن جبريل، وجبريل يتلقى عن رب العالمين، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تلقى عنهم التابعون، وانتشر الصحابة في العالم، فانتشر العلم من المسجد النبوي الشريف، وفي مكة كانت مدرسة ابن عباس، وبعده تلاميذه كـ عطاء وغيره، وكان في الشام الأوزاعي وغيره، وفي مصر الليث بن سعد، وفي البصرة الحسن البصري، وفي العالم كله انتشر العلم الإسلامي والديني بما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبدأ انتشاره من هذه الجامعة الأولى.

وكان المسجد -أيضاً- داراً للقضاء، يقضي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده، وكان كذلك بيت مال المسلمين، فحينما جاء مال البحرين وضع في المسجد، وقام عليه أبو هريرة حارساً، وحصلت له قصته مع الجني الذي كان يأتي بالليل ليسرق منه، وأخذه مرتين وأمسكه، واعتذر إليه، فأطلقه، وفي المرة الثالثة أقسم ليذهبن به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم أنه جني، فقال: دعني فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها.

ثم قال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح.

فتركه، فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المرة الثالثة قال: (ما فعل أسيرك البارحة؟ فأخبره أبو هريرة فقال: صدقك وهو كذوب، ثم قال: أتدري من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ فقال: لا.

قال: ذاك شيطان) .

والكاذب قد يصدق، ثم بدأ صلى الله عليه وسلم يقسم ذلك المال.

ويقول بعض الكتاب أيضاً: لقد تولى المسجد مهمة المستشفى العسكري، وذلك أن سعداً رضي الله عنه لما أصيب بسهم في الخندق نصبت له خيمة في هذا المسجد ليكون قريباً فيعوده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سأل ربه: (إن كنت أبقيت حرباً لقريش فأبقني إليها، وإن لم يكن ذلك فاجعل إصابتي شهادة، وأن تقر عيني في بني قريظة) ، فلما نقض بنو قريظة العهد في الخندق، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ننزل على حكم سعد، فلما جاء سعد حملوه من المسجد إلى محلهم هناك، فقال: حكمي على من كان هاهنا؟ قالوا: نعم، وحكمي على من كان هنا؟ قالوا: نعم.

والرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الجهتين، قال: كلكم رضيتم بما أحكم به؟ قال الجميع: نعم.

قال: حكمت فيهم.

بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى نساؤهم، وذراريهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع طباق، -أي: السماوات السبع-) ، ثم رجع فانتقض عليه جرحه فمات رضي الله تعالى عنه.

وكان المسجد -أيضاً- موضعاً للفتوى، وكان فيه عدة مهام يؤديها، وكذلك المساجد التي أنشئت فيما بعد، وأولى تلك المساجد الكبيرة أو الجوامع كانت في مصر، فكان مسجد عمرو بن العاص، جامعة ترتب فيه الدروس والعلوم، وانتشر العلم من تلك الجوامع، وكذلك في قرطبة، وكذلك في تونس، وكانت تبنى المساجد على أنها مدارس، ولطلاب العلم فيها حظ كبير.

إن للمسجد في الإسلام دوراً عظيماً، ورسالته عظيمة، فإمامه يكون صاحب علم، ويكون مفتياً للحي، ويمكن أن ينظم شئون المنطقة، ويمكن أن يصلح بين من تخاصم فيها، ويصلح ذات البين، ويمكن أن يرجعوا إليه فيما نابهم، وكذلك يعلم الجاهل.

إلخ.

وكانت المساجد -أيضاً- تشتمل على الكتاتيب لتحفيظ الصغار القرآن الكريم.

ولعل هذا القدر يعطينا أهمية المسجد في الإسلام، وما ينبغي علينا من العناية برسالته، سواءٌ أكان للجمعة، أم كان للقاءات أخرى، أم كان للتعليم، أم كان للإصلاح بين الناس، أم كان لتلاقي أفراد المجتمع، وذلك بتلاقي أفراد كل حي في مسجدهم، فيتعرف بعضهم على أحوال بعض.

ومن هنا نعلم أهمية هذا الحديث: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا أمر إلزام- أن تبنى المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب) ، وذلك لأهميتها ولعظم رسالتها