للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جواز قطع الإذخر من الحرم للحاجة]

قال العباس لرسول الله بعد أن ذكر حرمة شجر الحرم: (إلا الإذخر يا رسول الله! فإنا نجعله في قبورنا وفي بيوتنا، فقال: إلا الإذخر) .

قول العباس رضي الله تعالى عنه: (إلا الإذخر يا رسول الله) (إلا) أداة استثناء، والإذخر نبات، فالإذخر مستثنى من قوله: (ولا يختلى شوكها) ومن قوله في الحديث الآخر: (ولا يختلى خلاها) والخلاء: هو النبات الذي ينبت في الأرض على الأمطار أو السيول أو غير ذلك، وهنا من ضمن الخلاء الذي ينبت في الأرض البيضاء: الإذخر، وهو نبت حجازي معروف، طيب الرائحة، وله خصائص مذكورة في كتب الطب، وقد كان يؤخذ الإذخر قديماً ويوضع على أفواه أكياس الفحم.

فـ العباس رضي الله تعالى عنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستثني من الخلاء الإذخر، ولما كان معروفاً عندهم ما احتاج إلى تعريف، ثم علل رضي الله عنه موجب هذا الاستثناء فقال: (فإنا نجعله في قبورنا) ، فقد كانت العادة أن أهل مكة يشقون وأهل المدينة يلحدون، والشق: هو أن يحفر القبر، ثم يحفر في الوسط خد على قدر الجسم ويمدد فيه، واللحد: بعد أن يحفر القبر في جهة القبلة قدر ما ينام فيه الميت ثم يسد عليه، وفي كلتا الحالتين يسد على الميت باللبن أو بالحجارة، وكان يتخللها فراغ، فإذا أهيل التراب على الميت تساقط التراب من بين الأحجار أو الطوب على الميت، فيجعلون الإذخر يسد المسام والفراغ الذي بين الحجر والآخر، وقد يتعذر عليهم استعمال الطين خاصة وأنه لا يوجد هناك؛ لأن الأرض رملية.

إذاً: العباس رضي الله تعالى عنه طلب استثناء الإذخر لمصلحتهم وحاجتهم: الأولى: أنهم يضعونه في قبورهم.

والثانية: أنهم يضعونه في بيوتهم، وذلك حينما يسقفون بالخشب ويأتون بالجريد أو الأغصان ويضعون فوقها من الطين ما يحميها من الأمطار، فيكون بين الأخشاب فراغ، فيجعل الإذخر طبقة فوق الأغصان أو الجريد أو الخشب، ثم يوضع فوق ذلك ما يطلى به السقف من الطين.

الثالثة: قوله: (ولقيننا) واللفظ هذا موجود في بعض النسخ، القين: هو الحداد، وحاجة الحداد إلى الإذخر حينما يأتي بالحطب ليشعله ليذيب به الحديد، والحطب الكبير إذا أشعل فيه الكبريت لا يشتعل، فيحتاج إلى صغار الأغصان ودقائق النباتات، فيؤتى بالإذخر فيشتعل حالاً ثم توضع الأخشاب الكبيرة بعد ذلك، فنار الإذخر تحرق الأخشاب، وهكذا يكون وسيلة لإشعال الحطب، وإلا لما استطاع الحداد أن يشعل النار في الحطب الجزل، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم استثناء العباس، وعرف حاجتهم إليه؛ قال: (إلا الإذخر) .

وهنا مسألة: وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب بعد السؤال مباشرة، أي: أنه لم يتربص مجيء الوحي ليجيبه عن هذا السؤال؛ بل أجاب حالاً، فهل تكون هذه الإجابة اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم؟ أم أن الوحي جاء سريعاً وأخبره بالحكم؟ فمكة حرام منذ أن خلق الله السماوات والأرض، لا يختلى خلاها، فهو استثنى من ذلك الإذخر، فيقول ابن دقيق العيد: يحتمل أن هذا اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم وقد أقره الله عليه، ويحتمل أن يكون الوحي قد جاء بسرعة؛ لأن الوحي إعلام في الخفاء، فيكون جبريل عليه السلام قد جاءه بالجواب.

وما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب العباس لحاجته، فهل كل ما نهى عنه رسول الله يباح للحاجة؟ قالوا: لا؛ لأن النص جاء باستثناء الإذخر بخصوصه، ولم يأت باستثناء الحاجة في الخشب لسقف البيوت، ولا لآلات البيت من النجارة وغيرها، ولم يأت باستثناء الخلاء للرعي، حتى قال بعض العلماء: الخلاء الرطب وهو المرعى الذي ترعاه الدواب لا يحل رعيه، ولكن أين يذهبون إذا كان عندهم دواب؟ يقال: هذا من نبت الله، المهم أنهم لا يعتدون.

إذاً: أعلن النبي صلى الله عليه وسلم حرمة مكة، وأنها محرمة من قبل، وإنما أحلت له ساعة، ثم عادت حرمتها كما كانت إلى يوم القيامة، ومن حرمتها أن يتجنب فيها قتل الصيد وتنفيره، وقطع شجرها، واختلاء شوكها، والتقاط لقطتها إلا لمنشد، وهنا يبحث الفقهاء فيمن ارتكب أحد هذه الأشياء المنهي عنها في الحديث السابق، فمن اختلى خلاها، أو اقتطع شجرها، أو نفر أو قتل صيدها، هل عليه في ذلك جزاء أم لا؟ من المعلوم أن المحرم إذا قتل الصيد {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة:٩٥] قالوا: وفي الحرم كذلك، فهناك لحرمة الإحرام خارج الحرم، وهنا لحرمة الحرم في الحج وفي غيره، للمحرم ولغيره، حتى قالوا في الشجرة الكبيرة فيها نعامة، والشجرة الصغيرة فيها شاة، قياساً على كبار الصيد وصغاره، ولكن لم أقف على نص مرفوع فيما يتعلق بجزاء النباتات والأشجار، والله تعالى أعلم.