[متى شرع الصوم؟]
متى بدأ الصوم؟ قالوا: أول ما شرع الصوم بعد الهجرة في يوم عاشوراء، (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم: لم تصومونه؟ قالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فصامه شكراً لله، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم -أي: لأنكم غيرتم وبدلتم ما جاءكم به موسى، ونحن لا نغير ولا نبدل- فصامه وأمر الناس بصيامه) ، وفي بعض الروايات: (أنه صلى الله عليه وسلم لما نوى صيامه بعث إلى مياه أهل المدينة منادياً: من كان ممسكاً فليبق على صيامه، ومن أكل أو شرب فليمسك بقية يومه) ، وكان ذلك في السنة الأولى، ثم في السنة الثانية فرض رمضان، ونسخ فرضية يوم عاشوراء، وأصبح على النافلة والندب والاستحباب.
ولا يعني سؤال النبي صلى الله عليه وسلم اليهود عن صوم يوم عاشوراء أنه صامه تبعاً لهم، لا، فصوم يوم عاشوراء كان معلوماً عند العرب قبل الإسلام، كانوا يصومونه ويجددون فيه كسوة الكعبة، فكان معلوماً لديهم، ولكن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود -وهم أهل كتاب- ليعلم ما هو السبب عندهم، فذكروا له نجاة موسى من فرعون، فبين لهم أنه أحق بموسى منهم فصامه.
ويمكن أن يقال من جانب آخر: كان النبي صلى الله عليه وسلم أول ما جاء المدينة مهاجراً يحب أن يوافق اليهود من باب المسايرة، وليبين أنه أتى بما جاء به الأنبياء قبله، فكان يصلي ستة عشر شهراً من أول مقدمه المدينة مستقبلاً لصخرة بيت المقدس، حتى أن اليهود استدلوا بذلك على أنه تابع لهم، وكانوا يحتجون بصلاته صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم، ويقولون: يصلي إلى قبلتنا ويعيب ديننا!! فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقلب وجهه في السماء يتطلع إلى تغيير هذا الحال، ويحب أن يوجه في صلاته إلى الكعبة، فجاء قوله سبحانه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:١٤٤] ، وتم بذلك استقلالية الإسلام بكامله في معناه وفي شكله عما يتعلق باليهود.
أيضاً لما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يصومون يوم عاشوراء صام، ولكن لم يكن صيامه متابعة لهم حاشا وكلا، بل كان يُصام قبل ذلك، ويقولون: إن يوم عاشوراء رست فيه سفينة نوح على الجودي، وهو اليوم الذي أخمدت نار النمرود التي رمى فيها الخليل إبراهيم عليه السلام، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، وهو اليوم الذي أخرج الله فيه ذا النون من بطن الحوت، ويذكرون في التاريخ أحداثاً عديدة، والله تعالى أعلم، والذي يهمنا ما جاء ثابتاً، وهو سبب صوم اليهود إياه؛ لأنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون.
وهنا نقطة أرجو أن ننتبه لها، وأن نأخذها بعين الاعتبار، فيوم نجى الله فيه موسى من فرعون يوم مبارك ومناسبة سعيدة ففيه نصرة الحق على الباطل، فحينما تتجدد للمسلمين نعمة كهذه فإنها تستحق الشكر، ويغبط الإنسان فيها، فمن شكرها أن تقدم للمولى سبحانه طاعة، لا أن تجعلها يوم لهو ولعب، وتخرج عن الآداب الإسلامية.
ذكر ابن هشام في السيرة: أن النجاشي لما هاجر إليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أمرهم ما كان، وأعطاهم الأمان والحرية في بلاده، فإذا في يوم من الأيام يستدعيهم، فخافوا ما الذي حصل؟! فلما دخلوا الديوان أذن لهم في الدخول عليه في المجلس الخاص الذي هو فيه، فلما دخل أصحاب رسول الله على النجاشي، وكانوا يظنونه في الهيئة والهيبة والسلطة والسلطان؛ فهو ملك، فإذا بهم يجدونه جالساً على التراب، لابساً المسوح، والمسوح نوع من اللباس خشن يتخذه بعض العباد للعبادة، ابتعاداً عن ترف القطن والكتان والحرير المحرم، زيادة في الخشوع والخضوع بين يدي الله، ورءوه حاسراً رأسه، فلما رءوا هذا المنظر ظنوا أن الملك قد وقعت به مصيبة، فقال: أتدرون لم دعوتكم؟! قالوا: لا -والله- عجِّل، لماذا دعوتنا؟ قال: في هذا اليوم أتاني خبر بأن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قد لقي عدوه من المشركين في أرض يقال لها: بدر، كثيرة الأراك، ترعى فيها الإبل، ونصره الله على عدوه، وقد جاء عن عيسى عليه السلام أنه قال: إن الله يحب من عبده إذا أنعم عليه نعمة أن يظهر منه التواضع، فلهذا تجدونني على ما أنا عليه على تراب بدون فراش، وفي مسوح لا في لباس الملك، حاسر الرأس لا ألبس عمامة، فمظاهر الذلة والخضوع إلى الله كلها تجمعت فيه.
وهكذا: إذا تجددت للمسلمين نعمة فيها نصر الحق على الباطل، كنعمة نجاة موسى من فرعون، وقد يقول إنسان: لقد تجددت النعم في الإسلام زمن رسول الله، فهذا يوم بدر يوم الفرقان، جعله الله فتحاً، وجعله الله فرقاناً بين الحق والباطل، فإذا كان الأمر كذلك فهل الرسول صام يوم بدر؟ نقول: لا، هذه أمور يتوقف فيها على الشرع، إثباتاً أو نفياً، فهو مقدم على كل رأي، وما لم يكن فيه نص، ولم يكن فيه أمر أو نهي، وكان مجرد تجدد نعمة؛ فإن على الإنسان أن يشكر الله على هذه النعمة بالقيام بطاعة لله، لا كما نجعل بعض المناسبات أعياداً بلعب وبطرب وبلهو!! لا، ليس هذا من باب التعبير عن شكر النعمة، بل التعبير الحقيقي عن شكر النعمة وشكر المنعم سبحانه هو أن نذل إليه، ونخضع بنوع من أنواع العبادات التي يحبها، والتي قد شرعها.
إذاً: كان صوم يوم عاشوراء هو بداية الصيام، ثم فرض صوم رمضان ونسخ فرضية عاشوراء، وبقي صيامه على الندب.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أراد مخالفة اليهود في صوم هذا اليوم، فندب إلى صوم اليوم التاسع مع اليوم العاشر؛ ليكون مغايراً في الصورة والهيئة لما كان عليه اليهود في صومهم.
ولما شرع الصوم في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:١٨٣] بين أنه كتب على من قبلنا ثم بين عدده: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:١٨٤] ، فبعض العلماء يقول: أياماً معدودات هي سوى رمضان، كما جاء في الأحاديث: صوم الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر، أو صوم ثلاثة أيام من كل شهر على ما في رواية أبي هريرة، ومالك يقول: ثلاثة أيام من كل شهر، من كل عشرة أيام يوم: يوم واحد، ويوم إحدى عشر، ويوم إحدى وعشرين، والحسنة بعشر أمثالها.
والبعض يقول: (أياماً معدودات) هي بعينها شهر رمضان، ولكن جاء التكليف أولاً بصورة التخفيف: (أياماً معدودات) ، عليك الصيام، فتقول: سيكثر الصيام؟ قال: لا، لا، بل أيام، فيستقبله المكلف في صورة التقليل؛ لأن الأيام جمع قلة، فتهون عليه، كما في قصة يوسف: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف:٢٠] ، ثم لما اطمأنت النفوس، وأحبت الصوم جاءهم بكماله: ((شهر رمضان)) ، وبين سبحانه أحكام هذا الشهر وفضله.
إذاً: كانت بداية الصوم بالتخفيف والتدريج، ثم أكمل الشهر وأكملت الفرائض، وانتهى الأمر كما جاء في قوله سبحانه في ختام عمره صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:٣] ، ومن هنا يقول مالك رحمه الله: ما كمل لا يحتمل زيادة، ولا يجوز فيه النقص؛ لأنك إذا زدت عليه كأنك تقول: الخبر بالإكمال غير صحيح، فبقي عليه هذه حتى يكتمل اكتمالاً تاماً، فهذا خطأ، ولهذا كان مالك يقول: من سن سنة وظن أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ((وأكملت)) ، وهذا يأتي ويقول: بقي هذه، فهذه الذي جئت بها أنت هل محمد صلى الله عليه وسلم يعرفها أو لا يعرفها؟ إن كان يعرفها ولم يخبرنا بها فيكون قد كتم، وإذا كان لا يعرفها، فشيء لم يعرفه محمد بن عبد الله هل تعرفه أنت؟! إذاً: شهر رمضان لا يقبل نقصاً ولا يقبل زيادة، ومن هنا افتتح المؤلف مبحث باب الصيام.