[بيان حديث أبي بكر لمجمل القرآن: (وآتوا الزكاة)]
فهذا خطاب أبي بكر رضي الله تعالى عنه يقول فيه: (وعن أنس: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له: هذه فريضة الصدقة) .
هذه الكتابة كتبها أبو بكر من عنده أو مما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا يمكن لـ أبي بكر أن ينظم هذا التنظيم من عنده؛ لأنه يتعلق بأموال الناس، وأموال الناس محترمة، لا يمكن لإنسان أن يتسلط عليها ويأخذ منها، وهي عبادة تتعلق بركن مالي، والعبادة لا يمكن لأحد أن يتحكم فيها.
إذاً: أبو بكر رضي الله تعالى عنه لما كتب لـ أنس كتب له ما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا صرح بذلك فقال: (التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين) .
وهنا يقف العلماء في مسألة أصولية وهي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم له حق في الفرضية، ولكن هل ذلك له في بيان ما أجمل من كتاب الله أم له أن يستقل به؟ فمما له صلة بكتاب الله أن الله سبحانه وتعالى فرض الزكاة إجمالاً فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:٤٣] ، وقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج:٤١] ما هي الزكاة التي آتوها؟ ما هي أنواع الأموال الزكوية؟ ما مقادير أنصبائها، ما مقدار ما يؤخذ منها؟ ولهذا يقول الأصوليون: السنة قاضية على الكتاب، بمعنى: أنها مبينة لما أجمل فيه، ويتعين على كل مسلم أن يأخذ بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداءً أو بياناً، وقد بين المولى وجوب ذلك: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:٧] وعصمه الله من الخطأ فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣-٤] كما قال السيوطي رحمه الله: الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته، وتعبدنا بتلاوته الحرف بعشر حسنات، ووحي لم نؤمر بكتابته، ولم نتعبد بتلاوته، وهو السنة.
ولما جاء شخص إلى بعض السلف وقال: ما حاجتنا في السنة والله يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:٣٨] ؟ قال: نعم، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما جاء في كتاب الله.
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: السنة كاملة كقطرة من بحر كتاب الله؛ لأن الله قال لنا في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧] فهذا متعلق بالسنة بجميع ما فيها.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يقول: عندنا كتاب الله، ما وجدنا في كتاب الله أخذنا به، وما لم نجد لا حاجة لنا فيه! ألا وإنني أوتيت الكتاب ومثلَه معه) والذي أوتيه صلى الله عليه وسلم مع الكتاب هو السنة.
وهنا لما قال هذا الرجل هذا الكلام لبعض السلف، قال: يا ابن أخي! تعال، لا غنى لك عن السنة، هل وجدت في كتاب الله عند قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:٤٣] أن الصبح ركعتان والظهر أربع والمغرب ثلاث؟ قال له: لا.
قال: من أين أخذتها؟ قال: من سنة رسول الله.
قال: إذاً: نحن ملزمون بالسنة.
وكذلك أرأيت أنصباء الزكاة هل وجدت في الذهب (٢.
٥%) مذكوراً في القرآن؟ هل وجدت في القرآن أن الغنم في كل أربعين شاةً شاةٌ؟ وهل وجدت في القرآن عن الإبل في كل خمس إبل شاة؟ وهل وجدت في الحبوب والثمار في كل خمسة أوسق صدقة؟ الجواب: لا.
إذاًَ: من أين وجدت ذلك؟ الجواب: من السنة.
وعلى هذا جاءت السنة بتفصيل ما أجمل في كتاب الله، وجاءت السنة بتشريع مستقل لكنه تابع لما جاء في كتاب الله، ولذلك لما جاء تحريم النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:٢٣] .
الأية، وجاء في القرآن: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:٢٣] جاء صلى الله عليه وسلم وقال: (لا يجمع بين المرأة وخالتها، ولا بين المرأة عمتها) فحرمة الجمع بين المرأة وخالتها ما جاءت في كتاب الله، وإنما جاء الكتاب بتحريم الجمع بين الأختين.
ووقع النزاع عند الأصوليين، وهل هذا يشمل ملك اليمين أم لا لعموم: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:٣] وعموم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:٢٣] ؟ الأختان من الحرائر لا شك داخلتان في هذا الحكم، والإماء لهن آية أخرى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:٣] .
ولما سئل عثمان رضي الله تعالى عنه: أيجمع بين الأختين بملك اليمين؟ قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، أحلتهما: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:٣] فهذا عام، وحرمتهما آية: {وَأَنْ تَجْمَعُوا} [النساء:٢٣] .
ولكن ينظر الأصوليون في أن الآية التي أحلتهما فيها استثناءات، فعمومها قد خرج منه أفراد: فلو امتلك أمه أو ابنته أو أخته لم يجز له التمتع بها، ولذا يقولون في الفقه: من امتلك من تحرم عليه نكاحها عتقت حالاً، فمن اشترى أخته مثلاً، فبمجرد تمام عقد الشراء تصير حرة وتعتق عليه، حتى لا يكون له عليها ملك يمين، وكذلك إذا اشترى أمه، أو اشترى أباه فإنه يعتق حالاً ولا يجري عليه ملك اليمين.
ثم قالوا: الفروج يقدر فيها الاحتياط، والاحتياط المنع حتى لا يقع في محظور.
إذاً: السنة من حيث هي قاضية على الكتاب، بمعنى: إذا وجد إجمال في كتاب الله أو إطلاق أو عموم، ووجد مبين في السنة للمجمل، أو مخصص من السنة للعام في كتاب الله، أو مقيد لمطلق في كتاب الله؛ عمل بذلك.
وهنا يقول أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (هذه فريضة الزكاة التي افترضها رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
قوله: (والتي أمر الله بها رسوله) .
أي: في عموم قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:٤٣] أو أنه أمره أمراً غير ما في القرآن، وقد يكون هناك وحي سوى القرآن.