[حكم استعمال الذهب والفضة ولبس الديباج والحرير وافتراشهما]
قال المصنف رحمه الله: [وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه) رواه البخاري] .
إذا وجدت صنفين مقرونين في الحديث بالطلب أو بالنهي فلابد أن بينهما علاقة، فالآنية واللباس كلاهما يستعمله الإنسان، فهذه آنية لطعامه وشرابه، وهذا ثياب للباسه، فبينهما ارتباط، وهو الاستعمال، ونحن بحاجة إلى بيان ما يجوز منهما وما لا يجوز، ونحو هذا الحديث سبق في باب الآنية، وتقدم هناك، والنهي جاء بالوعيد، وهو حديث: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) ، وفاعل (يجرجر) هو النار، كأن الطعام والشراب الذي يدخل إليه نار تجرجر، أو هو الفاعل للجرجرة، فيجرجر ناراً، ومهما يكن فهو وعيد شديد.
فنهى صلى الله عليه وسلم عن استعمال أواني الذهب والفضة، وهذا مبحثه واسع تقدم في باب الآنية، وأهم ما يتطرق إليه البحث هنا هو ما إذا كان الإناء الصيني والفخار والزجاج مطلياً بالذهب، وفرق بين المطلي بالذهب والمموه بماء الذهب، فالمطلي: هو أن يؤخذ الذهب مذاباً ويطلى عليه كما يُطلى الدهان على الخشب وعلى البنيان، أما المموه بماء الذهب فهو أخف، ولا جرم للذهب فيه، إنما هو اللون، وتمسحه بأي شيء، والفرق بين المطلي والمموه ما قاله النووي رحمه الله في المجموع، وهو أنه إذا أخذت سكيناً وحككت اللون الأصفر عن هذا الصيني الأبيض فإن حصلت باحتكاك السكين على هذا اللون الأصفر على جرم مادي ملموس فهو مطلي، وإن لم تحصل على شيء فهو مموه، وكذلك إذا أدخلته النار فذاب هذا الأصفر، وخرج منه مادة سائلة ذابت بعد أن كانت مجمدة فهذا مطلي، وهذا عين الذهب.
وإن لم يذب ولم ينحل عنه شيء فهو المموه.
وقد ذكروا عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنه جاء إلى المدينة فوجد في جدار المسجد النبوي عهود الخلفاء، وهذه كانت عادة كل خليفة أموي، حيث يكتب خطاب عهده، وهو خطاب العرش -أي: سياسة ملكه في الرعية-، ويكتبه على جدار المسجد النبوي إعلاناً لسياسته في الأمة، فكانت تكتب بماء الذهب، أو تكتب بالذهب، فرآها عمر وأراد أن يحتها، فقال له العلماء: إن كنت ستحصل من هذه الكتابة على مادة من الذهب فافعل، وإن كنت ستفسدها ولن تحصل على شيء لأنها مموهة فقط فاتركها فجرب فإذا به لا يحصل منها على شيء، بل كانت كتابة بمادة ذهبية لا يحصل منها على جرم، فتركها.
فما تجده على غلاف الكتاب، أو في بعض الأواني وبعض الزخارف إن كان مطلياً بالذهب فهو محرم، وإن كان مموهاً فلا شيء في ذلك.
مسألة: إذا وجدنا إناء من الجواهر النفيسة من الزمرد أو الياقوت أو غير ذلك فهل يحرم استعماله؟ الجواب: لا، كما لا يحرم على الرجل أن يلبس ويتختم بالخاتم الذي فيه فص من الفيروز، أو من الزمرد، أو من الألماس، ولو كانت قيمته أضعاف الذهب والفضة، فيجوز أن يلبسه، لكن الذهب والفضة حرام، وبعضهم يقول: لأنهما قيم الأعيان، والأثمان لا تكون للاستعمال، حتى لا تتعطل مهمتها النقدية فتتعطل الأسواق.
وقالوا: إن عامة الناس لا يميزون بين خرز وبين عقيق، والفقراء لا تنكسر قلوبهم من تلك الأحجار الكريمة كما تنكسر قلوبهم من الذهب والفضة؛ لأنهما معروفان للصغير وللكبير.
والله تعالى أعلم.
قوله: [وعن لبس الحرير والديباج] الحرير عرفناه، والديباج: هو عين الحرير، ولكن نسيجه متين، والحرير شفاف، ويقولون: يمكن أن تأخذ خيط حرير بأدق ما يمكن.
فالحرير إذا نسج على رقته كان رقيقاً شفافاً، كما قيل: شف عنها رقرق جندي، فـ (رقرق) أي: رقيق جداً، و (جندي) : نسبة إلى جند، أو إلى بلد تسمى بهذا الاسم، فإذا نسج غليظاً سمي ديباجاً، فنهى صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير على طبيعته، أو أن يكون ديباجاً.
أي: حريراً متيناً مكثفاً في النسيج.
وقوله: (وأن نجلس عليه) أي: على الحرير والديباج.
وقالوا: الجلوس على الثياب نوع من اللباس، فكأنه لبسه، والكل ملبوس بحسب حالته، واستدلوا بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين تريدون أن أصلي لكم؟) فعمد الصحابي إلى حصير قد اسود من طول ما لبس -أي: لكثرة الاستعمال- فأخذ ماءً فنضحه، قال العلماء: استعمال الحرير باللباس واستعمال الحرير في الجلوس سواء، والنهي فيهما سواء، فلا ينبغي للرجل أن يتخذ مجلساً به حرير يجلس عليه إذا كان مباشراً له.
وقد يقول قائل: الحرير مباح للمرأة تلبسه وتجلس عليه، فإذا اتخذت المرأة لنفسها ثياباً من حرير، واتخذت فراشاً من حرير فهو جائز لها، فهل تبيحون للزوج هذا الفراش تبعاً لها أو تمنعونه؟ والجواب: أعتقد أن المرأة إذا اتخذته لنفسها، ودعت زوجها إليه فله ذلك؛ لأنه ليس مستقلاً به، وإنما كان تبعاً لها في هذا الاستعمال، وهو مباح لها، ولا نفرق بين الزوجين، ولا نقول: كل واحد يتخذ له فراشاً على حدة.