قال صلى الله عليه وسلم:(وسلط عليها رسوله والمؤمنين) أي: في فتحها، (وإنها لم تحل لأحد كان قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار) جاء في بعض الروايات ( {وقد أحلها الله لي ساعة من نهار، ولم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي) .
وقوله:(لم تحل لأحد قبلي) أي: في الجاهلية وما قبلها، وتاريخ مكة طويل، لا يعلم مداه إلا الله، وقد أشار المولى سبحانه بأولية الكعبة فقال:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ}[آل عمران:٩٦] ، والكعبة موجودة قيل: من زمن آدم عليه السلام بنته الملائكة، وقيل: من زمن شيث عليه السلام، وقيل: بناه العمالقة، وقيل غير ذلك، إلى أن جاء القرآن بتاريخ إسلامي قريب، قال تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ}[البقرة:١٢٧] فقد كانت القواعد موجودة موضوعة، لكنها انطمست قيل: لما جاء الطوفان وغمر الكعبة، وأخذ الحجر الأسود وأخفي في أبي قبيس، حتى جاء الإسلام وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يقول:(إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم عليّ) قيل: هو الحجر الأسود، وقيل: هو غيره، ثم جاء إبراهيم عليه السلام والبيت مندثر، قال تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}[الحج:٢٦] ، فاندثر البيت ولم يبق له أثر، وجاء جبريل عليه السلام وبين مكانه لإبراهيم، كما جاء لـ عبد المطلب وبيّن له مكان زمزم، وقيل: إن الله أرسل سحابة في وسط النهار وقال لإبراهيم: خط عليها ثم احفر، فحفر حتى وصل إلى القواعد.
وقد جاء في الحديث الآخر:(إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض) ، وسيأتي الحديث الآخر:(اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم المدينة) ، وجمعوا بين الحديثين: بأن تحريم الله مكة حينما أمر القلم أن يكتب فكتب: إن مكة حرام؛ فهو تحريم من الله، ثم إن إبراهيم حرم مكة التحريم للناس وأعلنه وبين حدود حرمها.
إذاً: لم تحل مكة لقتال قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه، ولن تحل لأحد بعده، أي: لا يحلها الله لأحد بعده، فإذا استحلها إنسان فهو معتد؛ لأنها غير حلال له.
قال:(وإن الله أحلها لي ساعة من نهار) المقصود بالساعة هنا الساعة اللغوية، وليست الساعة الزمنية التي هي ستون دقيقة، والمعنى وقتاً من نهار، سواء كان النهار كله أو أكثره أو أقله، فقد أحلها الله له أن يدخلها بسلاحه عنوة مستعداً متهيئاً للقتال، وقد وقع فعلاً بعض القتال في بعض جوانبها حينما دخل خالد بن الوليد ومن معه من الجهة التي تقابل جهة دخول النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم:(ولن تحل لأحد بعدي) يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا يدل على أن مكة ستظل إسلامية إلى يوم القيامة؛ لأنها ستظل حراماً، والحرمة إنما هي أمر شرعي، فلا يجوز لأحد أن يستحلها أبداً.
وهنا يبحث الفقهاء فيما إذا طرأ طارئ، يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وفي غيره:(فإن ترخص أحد بقتالي فقولوا له: إن الله قد أحلها لرسوله ولم تحل لأحد بعده) ، وفي بعض الروايات:(وقد عادت إليها حرمتها إلى يوم القيامة) .
إذاً: حرمة مكة قديمة، سواء كانت بتحريم الله، أو كانت بتحريم إبراهيم، وتحريم إبراهيم إنما هو تحريم عن الله، أي: بلاغ عن الله سبحانه وتعالى بحرمتها.