ينبغي لطالب العلم أو المسئول أو العالم إذا واجهته قضية ليس عنده فيها نص، وليس عنده فيها ما يعتمد عليه؛ أن يتوقف ويستشير، ويبحث ما استطاع ليصل إلى الحقيقة، فإن وجد من القواعد والنصوص والأصول ما يبني عليه قوله فالحمد لله، وإلا اجتهد طاقته والتوفيق من عند الله.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سافر إلى الشام، وفي قرية بينه وبين الشام نزل، وجاءه القواد بالشام ليستقبلوه، ثم أخبر بأن الطاعون قد نزل بالشام، فماذا يفعل؟ أيقدم بالقوم على الطاعون فيهلكهم أم يرجع عن مسيره الذي خرج إليه؟ ما استبد برأيه، مع أن عمر يسمى الملهم، إذا سار في طريق شرد الشيطان منه، وقد نزل الوحي موافقاً لرأيه في عدة مواطن، ماذا فعل؟ دعا مشيخة المهاجرين، فجيء بمشيخة المهاجرين فسألهم فاختلفوا عليه، منهم من قال: امضِ إلى ما خرجت إليه، ومنهم من قال: لا تدخل أصحاب رسول الله على هذا الوباء، قال: قوموا عني.
ثم دعا مشيخة الأنصار فسألهم، فاختلفوا عليه، منهم من قال: امض إلى ما خرجت إليه متوكلاً على الله، ومنهم من قال: لا تدخل أصحاب رسول الله على هذا الوباء.
قال: قوموا عني.
ثم طلب مشيخة قريش، فاجتمعوا عنده وسألهم، فما اختلف عليه واحد فيهم، وأجمعوا رأيهم على أن يرجع بمن معه، فلما كان الليل قال: إني مصبح على ظهر -يعني: راكب راجع- فجاء عبد الرحمن بن عوف ولم يكن حاضراً من قبل، وسمع بالذي حدث، فقال: يا أمير المؤمنين! عندي في ذلك علم -إذاً: ظهر النور- قال: وما هو؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا نزل الطاعون بأرض فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا كان بأرض فلا تدخلوها) ، فحمد الله عمر وكبر، وشرح الله صدره، وفرح بأن اجتهاده بأنه مصبح على ظهر راجعاً موافق لما جاءه من هذا العلم النبوي الشريف، وهو أننا إذا سمعنا به في أرض فلا ندخلها.
أيها الإخوة! ليس هناك من يدعي علم عمر، ولا خيال علم عمر، وليس عندنا من يدعي ورع عمر، إذاً: مع فضله وجلالة قدره، وهو الخليفة، وله الحق في أن يشرع ما لم يكن فيه نص (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) ؛ ومع ذلك يستشير، ويبذل الجهد حتى يفرغ ما في وسعه، ثم يجتهد ويستقر رأيه على جهة، ثم يأتيه العلم مطابقاً لرأيه الذي استقر عليه.
وقد سمعت والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول في مسألة: والله! لقد مكثت عشر سنوات وأنا أبحث عنها حتى وجدتها في كتاب الله! إذاً: طالب العلم إذا عرضت عليه مسألة أو واجهته مشكلة أو قضية لا يبادر، ولا يسارع، سواء كانت فتوى، أو كانت علماً، أو كان غير ذلك، بل يستشير ويبذل الوسع، ويراجع، ونحن في الوقت الحاضر أمامنا -ولله الحمد- مصادر التشريع من كتب التفسير ومن كتب الحديث.
ابن تيمية رحمه الله الذي عاش ومات وحياته كلها في العلم، ويمكن أن تقول: قد عجن بماء العلم؛ يقول: كنت أقرأ للآية مائة تفسير، وأقول: اللهم! يا معلم داود! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، لم يقتصر على تفسيرين أو على عشرة أو عشرين، يقرأ مائة تفسير في الآية الواحدة؛ ليطلع على آراء العلماء؛ ليستوعب الأقوال فيها، والشيء بالشيء يذكر، اليوم نكون في جولة في هذا الموضوع.