تبقى المباحث عندنا مبحثان: الأول: صفة حجه صلى الله عليه وسلم، والشوكاني في نيل الأوطار، وابن حجر في فتح الباري، وابن القيم في زاد المعاد، والطبراني وغيرهم، أطالوا جداً النقاش والإيراد، ولا يتسع الوقت لدراسة كل هذه الأقوال وإيرادها في هذا المجلس.
وخلاصة الأمر في حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد جاءت نصوص صريحة صحيحة منها حديث عائشة المتفق عليه، (حج النبي صلى الله عليه وسلم مفرداً) وجاءت أحاديث أخرى وفيها: (حج متمتعاً) وابن القيم رحمه الله يجمع بين تلك الروايات بأنه: حج قارناً، فالروايات جاءت في حج النبي صلى الله عليه وسلم بالأوجه الثلاثة، فبعضهم قال: إن بداية حجه صلى الله عليه وسلم أول ما أحرم كان -على رواية عائشة - مفرداً الحج (لبيك اللهم حجاً) ثم بعد ذلك جاء الحديث الصحيح الصريح: (أتاني جبريل وقال: صل في هذا الوادي المبارك -وادي العقيق الذي في ذي الحليفة- ثم قل: عمرة في حجة) إذاً عندما أنشأ الحج كان مفرداً، ثم بتوجيه من جبريل عليه السلام: أدخل العمرة مع الحج فصار قارناً، فمن قال حج مفرداً نظر إلى أول أمره، ومن قال: حج متمتعاً فبهذا الحديث، وفيه القران أيضاً، قالوا: إنهم كانوا يسمون القران تمتعاً؛ لأن التمتع هو أن يأتي بالحج والعمرة في سفرة واحدة، فيأتي بالعمرة وبعد أن ينتهي منها يجلس، ثم يحج، ويجمع النسكين في سفر واحد، وكذلك القارن، فإذا كان الأمر كذلك فمن قال: متمتعاً أراد بالتمتع القران بجامع التسمية.
إذاً: كل الروايات التي جاءت في نوعية حجه صلى الله عليه وسلم صحيحة ولا تعارض فيها؛ لأنه في بداية الأمر كان مفرداً، ثم طرأ على ذلك القران، والقران يطلق عليه التمتع، إذن: انتهينا من صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وهي عند الجمهور: القران.
ثم قالت عائشة رضي الله تعالى عنها (فأما من حج أو أهل بالعمرة فإنهم حلوا حينما وصلوا) يعني: أدوا عمرتهم عندما وصلوا، فطافوا للعمرة، وسعوا، وحلقوا، وتحللوا، ولبسوا، وأما من أهل بالحج أو به وبالعمرة فلم يحلوا حتى إذا كان يوم النحر، ويوم النحر يأتي بعد عرفات، وبعد تمام الحج، فعلى هذا النص الناس على طبيعتهم ما طرأ عليهم جديد، ولكن وجدنا نصوصاً أخرى، من أنه صلى الله عليه وسلم لما وصل مكة وطاف طاف الجميع معه، من كان متمتعاً فلعمرته، ومن كان مفرداً أو قارناً فللقدوم، ثم ذهبوا جميعاً وسعوا، فمن كان معتمراً سعى سعي العمرة، ومن كان مفرداً أو قارناً سعى سعي الحج مقدماً بعد طواف القدوم، بقي الحلق والتحلل، أهل العمرة تحللوا ولبسوا، وأهل الإفراد والقران لم يتموا نسكهم وكان عليهم أن يبقوا إلى يوم النحر، كما قالت عائشة، وهذا الأمر طبيعي.
ولكن وجدنا في بعض النصوص أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن سعى وسعى الجميع معه كل على نيته قال:(من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) إذن أهل العمرة على عمرتهم من أول، والخطاب موجه للمفردين والقارنين، فمنهم من كان معه الهدي فبقي على إحرامه، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي على إحرامه ولم يتحلل، ومن لم يكن ساق الهدي معه وهو محرم بالحج؛ مفرداً أو قارناً توجه إليه الخطاب بجعلها عمرة، فتحللوا، فمن لم يسق الهدي وكان مفرداً بالحج أو قارناً بين النسكين عليه أن يتحلل لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا أمر جديد على الناس جميعاً، في الإسلام وقبل الإسلام، فتأخر بعض الناس عن التحلل، فوجد فيهم ثقلاً عن المبادرة فقال لهم:(لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي) أي: لحج وأحرم بدون هدي (ولجعلتها عمرة) كأنه يقول: ما منعني أن أتحلل كما أمرتكم إلا لأني سقت الهدي، ولما سئل:(ما بال الناس حلوا من إحرامهم، وأنت لم تحل يا رسول الله؟! قال: لقد سقت الهدي، ولبدت شعري) فسوق الهدي منعه من التحلل، لقوله تعالى:{وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة:١٩٦] ومحله يشمل: الزمان والمكان، فالمكان: منى، والزمان: بعد الرجوع من عرفات وهو يوم العيد.
ينقل بعض العلماء أن سبب استثقال بعض الصحابة: هو مخالفة هذا الأمر لما اعتادوه من قبل فقالوا: (أي الحل يا رسول الله؟! قال: الحل كله) ليس فقط لبس الثياب، كل ما كان محظوراً على المحرم لإحرامه صار حلالاً، ومن ذلك النساء، قال:(الحل كله، فقال قائل: يا رسول الله! أيذهب أحدنا إلى منى، وذكره يقطر -يعني: ونحن حدثاء عهد بالنساء، وما كانوا عهدوا ذلك من قبل- فقال: لو استقبلت من الأمر ... ) إلى آخره.