[تأثير الغذاء في طبع الإنسان وخلقه]
إذا نظرنا إلى وجود الخصال في الحيوان وجدناها تؤثر على الإنسان إذا أكثر من أكل لحمها، ووجدنا للعلماء كلاماً كثيراً في ذلك، ومنهم أبو حيان رحمه الله، حيث ذكر الحكمة في تحريم لحم الخنزير، فقال: إن من طبيعة هذا الحيوان افتقاد الغيرة، فالذكر لا يغار على أنثاه، فمن أكثر من أكل لحمه أثر لحمه على غريزة الغيرة عنده، فتضعف حتى يصبح لا غيرة له على نسائه، فالمصيبة جاءته من لحم الخنزير.
فإذا كان الأمر كذلك كان تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية لما كمن فيها من تلك الصفات الرذيلة التي لا يرضاها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يرضاها أحد من الناس لنفسه.
ويناسب هنا ذكر الكلام على قضية الوضوء من لحم الإبل، وعدم الوضوء من لحم الغنم؛ لأن الطريق واحد، فقد سُئل صلى الله عليه وسلم: (أأتوضأُ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت.
قال: أأتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) ، وأكل من الشاة في خيبر، ثم جيء له ببقيتها فأكل ولم يتوضأ.
من هنا قالوا: ما الفرق بين لحم الغنم، ولحم الإبل حتى يؤمر بالوضوء من هذا دون ذاك، والكل لحم؟ نجد في كتب الفقه أن بعض الفقهاء يقول: إن علة ذلك هي حرارة لحم الإبل.
ونجد آخرين يردون ذلك ويقولون: لحم الغزال أشد حرارة، ولم يؤمر بالوضوء منه، ولحم الحمام في الطيور أشد حرارة من الاثنين، ولم يؤمر بالوضوء منه، ولكن لو ذهبنا إلى أبعد من هذا لوجدنا الفرق في عموم النصوص، أي: النصوص التي لها صلة بالإبل، كما فعل علي رضي الله تعالى عنه في استنباط أقل مدة الحمل من عموم آيتين مختلفتين، الأولى قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:١٥] ، والثانية قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:٢٣٣] ، والحولان أربعة وعشرون شهراً، فاستنبط علي من مجموع الآيتين أن أقل مدة الحمل ستة أشهر.
فإذا جئنا من خارج موضوع الوضوء، وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة في معاطن الإبل، فقال: (صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل) ، مع أن هذه مرابض، وهذه معاطن، وهذه فيها أبوال وروث، وتلك فيها أبوال ورجيع، فما الفرق بينهما؟! والفرق قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا في معاطن الإبل؛ فإن الإبل معها شيطان) قالوا: شيطانها أنها إذا جاءت ووجدت نائماً، أو مصلياً، أو جالساً في مكانها طردته وآذته؛ لأن معها شيطاناً، أما الغنم فمعها السكينة، فإذا جاءت ووجدت مصلياً، أو نائماً أو آكلاً في مكانها فإنها لا تؤذيه، ولا تنفره، وربما قعدت ونامت بجانبه.
وفي الحديث الآخر: (مع أهل الإبل الكبر والخيلاء، ومع أهل الغنم السكينة والوداعة) ، فمن أين جاء الكبر لأهل الإبل؟ يجيء من جهة أنه يرى نفسه يرعى قطيعاً من الإبل، وقد قال الله تعالى عنها: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:١٧] ، فهو خلق عجيب، وصاحب الإبل يأخذ في يده عصا صغيرة، أو يناديها بالصفير فتجيء وتجتمع حواليه، أما الغنم فإنها معها الهدوء والسكينة، ولهذا ما من نبي إلا وقد رعى الغنم -وليس الإبل-؛ لأنها تكسبه الهدوء والسكينة والرفق، إذ لا يمكن أن يتجبّر على شاة صغيرة، أما الجمل فإنه إذا هاج إن لم تتجبر عليه قضى عليك.
وننتقل إلى جانب آخر فنجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً غضبان قد انتفخت أوداجه واحمرت عيناه، فقال: (إني لأعلم كلمات لو قالها لذهب عنه ذلك) ، وبين أصل الغضب بقوله: (الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، فأطفئوه بالماء) .
فإذا جمعنا كل هذه الأطراف وحدنا أن الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، والإبل معها شيطان، أو خلقت من شيطان، فهي شياطين، فإذا ما أكل الإنسان منها أفاضت عليه من آثر الشيطان، وهو الغضب، فحينما يأكل من لحم الإبل يأتيه من حركة ذاك الشيطان الغضبية ولو شيء قليل، فتؤثر على نفسيته، فحالاً نبادرها بالوضوء بالماء لنطفئ أثر ذلك.
فبالتلمس وجدنا فرقاً بين ما ظنوه متماثلاً، وأن لحم الإبل يختلف عن لحم الغنم، فيما يتعلق بالوضوء، وموطن الإبل تختلف عن موطن الغنم فيما يتعلق بالصلاة، وإلا فإن الكل طاهر عند من يقول بذلك.
وهنا الحمر الأهلية طبيعتها الذلة واللؤم والخسة، فلا يستبعد أن من أكثر من أكل لحمها تنتقل إليه غريزتها، ويتصف بشيء من تلك الصفات، وهذه ليست من صفات المؤمن.
وهذا الذي قدمناه ليس من موضوعنا ولكن رداً على هؤلاء الذين يقيسون التشريع الإسلامي بالمعقولات غير السليمة، ويدّعون أن الشريعة تتناقض؛ لأنها تفرق بين متماثلين، والتفريق بين متماثلين مناقض للعقل السليم.
فالحمار الأهلي ليس متساوياً مع الحمار الوحشي، والفرق بينهما موجود، ومن هنا كان النهي عن أكل الحمر الأهلية مع بقاء حلية الحمر الوحشية، والله تعالى أعلم.