وفي هذا الحديث يتوسع الفقهاء فيما يتعلق بحالة الفلاح، والفلاح قد يحتاج في ظروف ما إلى بيع نتاجه، فإما أن نقول فيها بالتسامح، وأنه من الغرر المعروف الذي يقبله الطرفان، ويأتي ذلك في بيع ما كان مقصوده في باطن الأرض، كالجزر والبصل والثوم والقلقاس والبطاط، فإن المقصود منها يكون فيما هو في بطن الأرض.
فإذا كان عند إنسان حقل من الجزر، فلو أخذ في كل يوم حوضاً من الحقل بقدر ما يستطيع، وقلعه وغسله وذهب به إلى السوق وباعه عياناً للناس، فالحمد لله، وهذا من أحسن ما يكون، ولكنه أراد أن يبيعه مرة واحدة ويرتاح من عناء السوق والذهاب والإياب، فأتى بتاجر ونظر في الحقل -مع أنه لا يرى المقصود شراؤه؛ لأنه في بطن الأرض- فاتفقا على البيع والشراء، فهل يجوز هذا؟ الذين يمنعون بيع الصوف على الظهر واللبن في الضرع يمنعون هذا؛ لأن هذا مجهول، والذين أباحوا البيع قالوا: يباع على الأنموذج، ومعنى الأنموذج: أن يأتي التاجر إلى الحوض الذي فيه الجزر، والثمرة في الحوض الواحد قد تختلف لاختلاف قربها من الماء، فما كان قريباً من الماء وتطول مدة سقيه فإن ثمره سيكون أجود وأكثر، فالتاجر يأتي إلى مدخل الحوض ويقلع اثنين أو ثلاثة -وهذا هو النموذج- ويذهب إلى طرف الحوض الآخر ويقلع اثنين أو ثلاثة -ويكون هذا نموذجاً ثانياً- ويأتي إلى وسط الحوض ويقلع اثنين أو ثلاثة -ويكون هذا نموذجاً ثالثاً- فإذا أخذ العينة من الأماكن الثلاثة استطاع أن يعمل نسبة متوسطة بين النماذج الثلاثة، وكم سيخرج من هذا الحوض عند قلعه؟ قنطار أو قنطاران أو نصف قنطار، ويخرجه في يوم واحد أو في يومين أو في ثلاثة، بشرط ألا يخرج من الأرض ما يداخل الموجود عند العقد، وأكثر تفصيل هذا المسألة عند المالكية والحنابلة.
فإذا تم معرفة مقدار المغيب في بطن الأرض برؤية النماذج، وقد صلح أكله -أما إذا لم ينضج فلا؛ لوجود الغرر- ويكون البيع على ذلك، وقد نص بعض الفقهاء -وخاصة الحنابلة- على جواز بيع مثل هذه الصورة، وكذلك بقية ما كان غائبه مطلوباً، فمن أجازه قال: انتفى الغرر نسبياً، ومن منعه قال: لا يخلو من الغرر، ولا يمكن لأي بيع في العالم أن يسلم من الغرر.
وما هو السبب في فرق الربح والخسارة؟ التاجر يشتريها بمائة ويبيعها بمائة وعشرة، فهذه العشرة يدفعها المستهلك وهي غرر عليه، لكنه لا بد من هذا الغرر البسيط، والتسامح فيه من أجل رواج السلع، وقد أشرنا إلى مسألة الثلاثة الذين يدخلون الحمام، فواحد يستهلك خمسة لتر، وواحد يستهلك عشرة لتر، والأجرة واحدة.
وكذلك: ثلاثة يركبون الطائرة، فواحد وزنه مائة وخمسون كيلو، وواحد وزنه ستون كيلو، وسعر تذكرة كل واحد مساوٍ للآخر، وهذا فيه غرر على شركة الطيران، ولكن يتسامح في هذا.
إذاً: هناك أمور من الغرر لا بد من التسامح فيها، والله تعالى أعلم.