شرح حديث: (كان رسول الله يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله) رواه مسلم] .
هذا الحديث الأول من أحاديث عائشة جاء بالنفي أم بالإثبات؟ بالإثبات، وسيعقبه حديث جاء بالنفي، فإذا قدم ابتداء حديث الإثبات فكأنه يشير ابتداء إلى ترجيح الإثبات، فنأخذ هذا الحديث، تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ... ) و (كان) في الغالب تدل على الدوام والاستمرار، لم تقل: صلى الضحى يوماً، (ويزيد ما شاء الله) يعني: مرة يصلي ثمان ركعات، ومرة عشر ركعات، ومرة اثنتي عشرة ركعة، وقد جاء المؤلف بحديثها في آخر الباب: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في الضحى بنى الله له بيتاً في الجنة) وهذا جزء من حديث: (من صلى ركعتين لم يكتب من الغافلين) ، (من صلى أربعاً كتب من التوابين الأوابين) ، (من صلى ثمان ركعات بني له كذا، أو كتب له ثواب كذا) ، (بني له قصر في الجنة) كل هذا تدريج مع الركعتين والأربع والثمان والاثنتي عشرة ركعة.
فحديثها الأول: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى أربعاً، ويزيد ... ) كأنها تقول: أقل ما صلى أربعاً، في هذا الحديث إثبات صلاته صلى الله عليه وسلم بالضحى، قبل أن نأتي بالنفي نأتي بالأحاديث التي تلائم الإثبات، فعن أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي رضي الله تعالى عنهما قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيتي يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثمان ركعات في الضحى، ما رأيت أخف منهما، ولكنه يتم الركوع والسجود) فقالوا: هذه ثمان، وعائشة تقول: أربع، وثمان يتفق مع قول عائشة: (ويزيد ما شاء الله) والثمان تزيد عن الأربع، فهذه أحاديث تثبت صلاة الضحى، والذين ينفون الضحى -كما سيأتي عن ابن عمر وغيره- يقولون: صلاة رسول الله عند أم هانئ يوم فتح مكة صلاة الفتح، وليست صلاة الضحى، فأجاب الآخرون وقالوا: كم من فتح فتحه الله على رسوله! وهل جاء في الغزوات ما يسمى صلاة الفتح؟ تشرع سجدة الشكر، الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث علياً إلى اليمن، وكتب إليه بأن بني فلان أسلموا كلهم عن بكرة أبيهم، فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب سجد شكراً لله، وهذا من نصوص أحاديث سجود الشكر، الذين أسلموا في اليمن، والخبر جاء إلى المدينة، فسجد شكراً لله، سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما فتح المدائن، ودخل إيوان كسرى صلى فيه ركعتين شكراً لله، مع أنه فتحت خيبر، وفتحت مدائن أخرى ولم يكن هناك صلاة، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كم من غزوة غزوها ولم يفعلوا ذلك، وجاء هناك في سنن الرواتب المطلقة سنة الفتح.
إذاً: يكون حديث أم هانئ تبعاً لحديث عائشة الأول، فـ عائشة تقول: (أربع ويزيد ما شاء) ، وأم هانئ بينت أنها ثمان ركعات، وجاء في حديث آخر من أحاديث إثبات صلاة الضحى: (كل سلامى من الناس كل يوم يصبح عليه صدقة) ، والسلامى: المفصل في جسم الإنسان، وفي بعض الأحاديث: (في جسم كل إنسان ستون وثلاثمائة سلامى) لا تقل: لماذا لا تقل: ثلاثمائة وستون مثل ما يقول الناس؟ العدد في اللغة العربية يقرأ من اليمين، أنت تقرأ: (ألم) من اليسار أم من اليمين؟ الكتابة العربية تقرأ من اليمين، فكذلك العدد في اللغة العربية ينطق من الآحاد فالعشرات فالمئات خمس وعشرون ومائة، بخلاف اللغة الإنجليزية أو الأعجمية فإنها تقرأ من اليسار، عندما نقول: سنة ألف وأربعمائة وأربع عشرة هذا غلط، ونقرؤه عربياً صحيحاً فصيحاً بأن نقول: سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وألف، نقرأ من اليمين آحاد عشرات مئات.
فالحديث يقول: (كل سلامى من الإنسان كل يوم يصبح عليه صدقة، قالوا: ومن منا يستطيع ذلك؟) هل أحد منكم يقدر على هذا ولو تمرة؟ ستون وثلاثمائة تمرة تكون أكثر من صاع أو صاعين، من يستطيع كل يوم أن يتصدق بصاعين؟ صعب.
قالوا: (ومن منا يستطيع ذلك؟ فيقول صلى الله عليه وسلم -يأتي لهم بعملة بديلة-: التحميدة صدقة، والتسبيحة صدقة، والاستغفار صدقة، وتعين الرجل على دابته صدقة، وتدله على الطريق صدقة، وأمر بمعروف صدقة) إذاً: صدقات كثيرة، وهذه ليس فيها درهم ولا دينار، وما دامت مجاناً خذ ما تريد، ثم قال:: (ويجزئ عن هذا كله ركعتا الضحى) إذاً: صلاة الضحى أقلها ركعتان، ثم يأتي بعد ذلك أربع ثم ثمان، ويأتي بعد ذلك اثنتا عشرة ركعة، هذه الأحاديث في جانب من يقول بمشروعية صلاة الضحى وسنيتها.
فإذا جئنا إلى الأحاديث التي هي أعلى درجة في الإثبات والصراحة، فعندما يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (أوصاني خليلي) لماذا لم يقل: أوصاني رسول الله؟ لأن رسول الله مشترك للجميع، لكن (خليلي) ليست لكل إنسان، {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:١٢٥] فالأنبياء كثر والرسل كثر يقول العلماء: الخلة أخص حالات الحب، وسبق أن قدمنا بأن الاصطلاحات الشرعية منقولة من الحقائق اللغوية، أنت عندما تفعل هكذا في الوضوء يقال: خللت الأصابع، وتخليل الأصابع: هو إدخال الإصبع بين الإصبعين لتتأكد من مرور الماء عليها، وهو مأخوذ من أصل النبات الذي يسمى الخلة، وأعواد الخلال ماذا نفعل بها؟ نخلل بها الأسنان.
انظروا إلى الصورة! ما بين الأسنان أهي فجوات متسعة تدخل فيها الأصبع أم أنها ضيقة؟ بل هي ضيقة، على قدر العود، وكذلك إذا خللت الأصابع هكذا هل هناك فراغ بين الأصابع المخللة؟ لا.
بل هي مزدحمة، قالوا: كذلك الخلة في الحب هي استغراق محبة الخليل خليله، بحيث لم يبق هناك فراغ في القلب لغيره.
إذاً: (أوصاني خليلي) هذه وصية مثلما يقولون: موصى عليها، وصية فيها اعتناء، وصية معنى بها، وسبق أن أشرنا بأن الوصية والوصلة متقاربان في اللفظ والمعنى، تقول: وصلت فلان بكذا يعني: أعطيته، وصيت لفلان بكذا، يعني: وصيت له من بعدك بوصية يأخذها، إذاً: فيها إيصال الخير، والشخص لا يوصي إلا لمن يحب، ولا يوصي لعدو، ولا لشيء مكروه، ولهذا أشرنا سابقاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ! والله إني لأحبك، وأريد أن أوصيك) قدم المحبة ليعلم معاذاً أن مصدر هذه الوصية الحب، قال: (والذي نفسي بيده يا رسول الله إني لأحبك أوصني، قال: لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) اللهم أعنا جميعاً؛ لأنه كما قيل: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول عن معصية، ولا قوة: على طاعة إلا بالله.
فقوله: (أوصاني خليلي) ، فإذا كانت الوصية من خليل كريم يكون محلها وموضوعها عظيماً، والواجب على الموصى إليه أن يعتني بها، ولهذا قال أبو هريرة: (فلا أدعهن حتى أموت: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام، وركعتي الضحى) فإذا نظرنا إلى المقارنة: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر) فإنها تساوي صيام الدهر.
إذاً: صلاة الضحى بدلالة الاقتران تساوي ما ذكر معها، أقل ما يمكن أن يقال في ذلك، ثم لنأت إلى ما يذكره صاحب الترغيب والترهيب، وأرجو من كل طالب علم أن يرجع إليه في تلك النصوص، جاء فيه: (يا ابن آدم! اكفني أول النهار بركعتين أكفك آخره) ، وجاء أيضاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً، فرجع قريباً، وغنم كثيراً، فقالوا: ما أسرع هذا البعث! وما أكثر غنيمته! فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أقرب من ذلك عودة، وأكثر من ذلك غنيمة؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: يسبغ أحدكم الوضوء، فيعمد إلى المسجد فيصلي ركعتي الضحى) يعني: يكون أكثر غنيمة من الذين ذهبوا فغزوا وغنموا بسرعة، ورجعوا بالغنائم! غريب.
ومن المجرب -يا إخوان- عند كثير من الناس، وما نسمعه من الآخرين، أن من تعود ركعتي الضحى إذا صلى ركعتي الضحى يظل طوال نهاره مستبشراً مطمئن النفس، قرير العين، قل أن يرد عليه ما يكدر خاطره، ويكفي أنه لم يكتب من الغافلين، وكتب من الأوابين، وغفر له ذنبه، وبني له بيت في الجنة، مع اختلاف عدد الركعات، وليس هناك إلزام بالعدد.
فإذا انتهينا من الجانب الثاني وهو الحديث الآخر لـ عائشة رضي الله تعالى عنها ننتقل إلى أوقاتها وما جاء في عدد ركعاتها، والله المستعان.