قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه) ، رواه أحمد وأبو داود، وقد حكم عليه البخاري وأبو حاتم بالوهم] .
الحديث الأول ليس فيه إشكال، لا في السند ولا في المعنى، والحديث الثاني جاء به المؤلف رحمه الله لما فيه من الخلاف، والإشكال.
والتفصيل: إذا وقعت الفأرة في سمن جامد فإنه يُلقى وما حولها، ويؤكل الباقي، ولكن هنا تفصيل لواقع الحال، فإن وقعت في جامد فالحكم قد تقدم، وإن وقعت في مائع فإنه يقول هنا:(فلا تقربوه) ، فلا تقربوه بماذا؟ أبأكل أم بادِّهان أم باستصباح أم بانتفاع؟! تقدم في النهي عن بيع الميتة أنهم أرادوا استثناء شحومها، فقال:(لا، هو حرام) ، وهل الضمير عائد إلى البيع أو الانتفاع؟ تقدمت الإشارة إلى الجمع، فقوله صلى الله عليه وسلم (فلا تقربوه) ، الجمهور على أن:(فلا تقربوه) ، أي: بالأكل إجماعاً؛ لأنه تنجس بموتها فيه وهو مائع، ولا نجد حداً محدوداً لوصول النجاسة إلى جزءٍ منه، بل لكونه سائلاً فإنها تسري في الجميع.
فقوله:(فلا تقربوه) ، الجمهور قالوا: لا تقربوه بالأكل، وبعض أهل الحديث، وأهل الظاهر قالوا: لا تقربوه أبداً، لا بالأكل ولا بالبيع ولا بالانتفاع، (مطلق أريقوه) .
والجمهور يقولون: هذا مال، وقبل أن يتنجس كانت له قيمة، ونهينا عن إضاعة المال، وهناك منفعة يمكن تحصيلها من هذا الدهن، وهذا السمن، فيمكن أن نجعله طلاءً للسفن، أو نستفيد منه بالاستصباح، أو نحو ذلك، فلا مانع، وذكر الجمهور حديث:(وإن كان مائعاً فاستصبحوا به) ، إذاً: أباح الانتفاع به، وحملوا على هذا كل متنجس بغيره لا بذاته، فقالوا: يجوز الانتفاع به دون البيع، والبعض زاد: النجس الأصلي (بذاته) ، وقال: شحوم الميتة لا نبيعها، وإذا انصب التحريم على البيع انصرف عن بقية الانتفاع كالاستصباح، ودهن السفن وغير ذلك.
الذي يهمنا في فقه الحديث الرواية التي ساقها الطحاوي:(استصبحوا به) ، والذي عليه الجمهور: أنه مال يجوز الانتفاع به، ويبقى النهي والتحريم خاصاً بالأكل؛ لأنه تنجّس، والإنسان لا يأكل النجس.
إذاً: المؤلف رحمه الله جمع الحديثين معاً؛ ليبين حكم ما إذا وقعت الفأرة في جامد أو مائع، ثم هل الأمر يقتصر على الفأرة والسمن أو يقاس على الفأرة كل ما شاكلها، وعلى السمن كل ما شاكله؟ هناك حيوانات تقارب الفأرة مثل ابن آوى وابن عرس واليربوع أو الجربوع، هذه كلها حيوانات يعرفها أهل البر، منها ما يأكلونه ومنه ما لا يأكلونه، فهذه كلها من فصيلة الجرذان -الفئران-، فهل يقتصر الحكم على الفأرة أو يعم الجميع؟ قالوا: يعم كل ذي نفس سائلة، لو أن قطة صغيرة سقطت في السمن، وبعض الفئران الكبيرة التي في البساتين أكبر من القطة الصغيرة! فنقول: حكمها حكم الفأرة تماماً، وكذلك أنواع الجرذان مثل: اليربوع أو الجربوع، وبنت عرس، وابن آوى، كلها حيوانات صغيرة تعيش في البيوت وتعيش في البساتين، فإذا سقطت في مائع فهذا حكمها.
وتلك الحيوانات بما فيها الفأرة والهرة الصغيرة إذا وقعت في ماء مستبحر - (بركة كبيرة) أو كما يقول الفقهاء: فوق القلتين، على اختلاف في تقدير القلتين- وماتت فيه واحدة من تلك الحيوانات، وكان الماء فوق القلتين، يأتي الحديث:(إذا كان الماء قلتين لا يحمل الخبث) ، أي: لا يتنجس، وقيل: لا يحمل، يعني: يضعف وينجس، والجمهور على أنه (لا يحمل الخبث) يعني: الخبث لا يؤثر فيه، بل يتلاشى.