[من معاني التلبية]
وهذه التلبية وشعار الحج لو وقف الإنسان عندها لوجد -كما أسلفنا سابقاً- أن الحج يشمل عموم أعمال الإسلام، وقد أسلفنا أيضاً أن رحلة الحج لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي رحلة عامة للدين والدنيا والآخرة، فهنا حينما يقول الحاج: لبيك اللهم لبيك، التلبية في اللغة تأتي بمعنى: الإقامة، أي: إقامة على طاعة الله، وتأتي بمعنى: إجابة النداء، كأن تنادي: يا زيد! فيقول: لبيك، أي: أنا سامع مجيب مستعد لما تأمرني به.
وهنا يقول العلماء: (لبيك) إجابة لنداء، وأين هذا النداء الذي يلبيه الحاج عند إهلاله بالنسك؟ قالوا: هناك نداء سابق وهو ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:٢٧] ، ولما بنى إبراهيم البيت أمره الله أن ينادي في الناس: (إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه، فقال: يا رب! وأين سيبلغ ندائي؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ، فصعد أبا قبيس ونادى وقال: أيها الناس! إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه) ، فأبلغ الله سبحانه وتعالى بقدرته هذا النداء لجميع الخليقة إلى يوم القيامة، فقد بلغ الصوت للحاضرين آنذاك، وللأشخاص في الذراري في أصلاب الآباء قبل أن يوجدوا، فشمل كل أجيال بني آدم، وقالوا: من لبى مرةً حج مرة، ومن لبى أكثر حج أكثر.
فمجيء الإنسان إلى الميقات وإعلانه: لبيك اللهم لبيك، عبارة عن إجابة لذلك الدعاء الذي دعاهم به إبراهيم عليه السلام لحج بيت الله الحرام، وفي قول الحاج أو المعتمر: لبيك اللهم لبيك، تكرار للتأكيد.
وقوله: (لا شريك لك لبيك) ، هذه هي عقيدة التوحيد التي خلق الله الخليقة من أجلها ليعبدوه ويوحدوه، (لا شريك لك) رد على أهل الجاهلية، فقد كانوا يقولون في حجهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فهم يعترفون بأنه شريك صغير، وأنه مملوك لله، ولكن ذلك لم ينفعهم، فجاءت التلبية تخلص العبادة لله وحده: (لبيك لا شريك لك) لا في هذا الحج ولا في غيره.
ثم يعقب ذلك بما يشبه التعليل لنفي الشراكة عن الله، فيقول: (إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) فكأنه يقول: موجب التوحيد وعدم الشريك هو أن الحمد والنعمة لك، والحمد يكون لكمال الممدوح لذاته، قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢] ، و (رب العالمين) فيها التنصيص على أن جميع النعم في جميع العوالم هي لله، وهنا: تحمد الله لكمال ذاته، والحمد يتضمن الشكر على نعمه؛ لأن جميع النعم لله، (إن الحمد) أي: الكمال الذاتي، (والنعمة) : التي نعيش بها ونرجوها في الدنيا أو في الآخرة هي لله.
إذاً: ما دام الكمال لله فلا نعبد غيره، وما دامت النعمة كلها لله فلا نطلب من غير الله شيئاً؛ بل نتوجه إلى الله بكليتنا بدون شراكة في ذلك.
والملك كله لله، إذاً الخير والشر لا يكون إلا بقضاء الله وقدره، فلا تخشى في دنياك أحداً؛ لأن النعمة التي ترجوها عند الله، والشر الذي تتقيه وتخشاه لا يأتيك إلا بقضاء الله؛ فلا وجود لمن ترجوه أو تخشاه إلا الله، وبهذا تكون بداية الناسك تجديد العهد بربه إيماناً وتصديقاً ورضاً، ويظهر شعار الحج بهذا النشيد المبارك: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) ، أي: في ذلك كله، فهذا هو معنى الإهلال.
ومن المعلوم أن الأذان وهو شعار الإسلام في أعظم ركن وهو الصلاة يبدأ بالتكبير ثم بالتهليل (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ثم نجد الدعوة إلى الصلاة وإلى الفلاح، فنجد فيه أيضاً توحيد الله سبحانه، والتصديق برسوله في النطق بالشهادتين، ونجد تكرار التكبير؛ لأنك في عملك أياً كان نوعه، أو في جلوسك ومتعتك أياً كانت صفتها، حينما تسمع: الله أكبر، توقن بأن الله أكبر مما أنت فيه مهما كان، فلا يمنعك ولا يؤخرك عن إجابة المنادي (حي على الصلاة) ؛ لأن الله أكبر مما أنت مشغول به، أو مما تسعى إليه.
وهكذا يكون الإمعان في التلبية بمعنى: الإمعان في أسس التوحيد والعودة إلى الله سبحانه وتعالى.