للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خلاف العلماء في مسألة كم يصلى بالتيمم الواحد؟]

وهذه المسألة تباعد الخلاف فيها، حتى قال ابن عبد البر رحمه الله: لقد جمعت فيها كتاباً، أي: جمع الآراء والأقوال، واستدلال كل فريق لما ذهب إليه.

وغالب ما يبنى عليه الخلاف في هذه المسألة هو ما تقدم بحثه: هل التيمم مبيح للصلاة أو رافع للحدث؟ فمن اعتبر التيمم رافعاً أعطاه حكم الوضوء، ومن اعتبره مبيحاً قصره دون الوضوء، ومجمل الأقوال في ذلك هي: عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا تيمم صلى ما شاء من الصلوات المفروضة ما لم يحدث، فهو عنده كالمتوضئ تماماً.

وأبو حنيفة رحمه الله، مبناه في ذلك على أن التيمم حكمه حكم الوضوء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الصعيد وضوء المسلم) ، فقال: الرسول صلى الله عليه وسلم سمى الصعيد وضوءاً، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد، ومن هنا قال أبو حنيفة رحمه الله: يجمع بالتيمم الواحد عدة فروض كما يجمعها بالوضوء، ولا يبطل الوضوء إلا الحدث، وهو الذي يبطل التيمم من باب أولى، وبالتالي له أن يصلي بالتيمم الفرض والفرضين والنوافل التابعة لها، ويفعل بالتيمم كل ما يفعله بالوضوء، ولا يتعين بنية، فلو تيمم للمغرب ودخل المسجد الحرام وصلى المغرب وقام وطاف بذلك التيمم، وصلى ركعتي الطواف، وتنفل بين المغرب والعشاء ما شاء، ثم صلى العشاء بذلك التيمم؛ صح، فهذا قول أبي حنيفة.

ويقول الإمام مالك رحمه الله: إذا تيمم للفريضة فلا يصلي نافلتها قبلها بهذا التيمم، ولو تيمم لصلاة الصبح فصلى ركعتي الفجر قبل الصبح بذلك التيمم فعليه أن يتيمم للصبح مرة أخرى، بخلاف النافلة بعد الفريضة، فإذا تيمم للظهر فله أن يصلي سنة الظهر التي بعدها.

والشافعي رحمه الله يقول: يصلي الفريضة وراتبتها قبلها أو بعدها، فلو كان سيجمع بين فريضتين في سفر بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، فتيمم للظهر وأقام الصلاة للعصر، فيتيمم للعصر في مكانه، وإن كان في مكان واحد وفي وقت واحد، ولكن لفريضتين.

والإمام أحمد كذلك يقول: يصلي الفريضة ونافلتها قبلها أو بعدها، وعند أحمد أيضاً كما يذكر صاحب المغني: إذا تيمم للفريضة صلى النافلة وصلى على الجنازة بذلك التيمم؛ لأن نيته في التيمم للفريضة، وهي أقوى من النافلة، والنافلة أقوى من الصلاة على الجنازة؛ لأنه كما قال ابن عمر: (إنما هي دعاء ليس فيها ركوع ولا سجود) .

وبهذا نرجع مرة أخرى إلى أثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكونه بسند ضعيف جداً أُخذ العمل به على ما قدمنا؛ لعدم معارضته لما هو أصح منه أو أقوى.

نأتي إلى مناقشة من يقول: التيمم لا يصلى به إلا فريضة واحدة حتى في الجمع في السفر، وقالوا: الأصل في ذلك أنه عندما تيمم لصلاة الظهر مثلاً، لم يتيمم إلا بعد أن بحث عن الماء فلم يجده؛ لأن الله سبحانه وتعالى أولاً قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:٦] ، فأمر بالوضوء عند القيام لكل صلاة، ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:٦] إذاً: عدم وجود الماء يكون بعد البحث والطلب، فهو قد بحث عن الماء وطلبه فلم يجده، فجاز له أن يتيمم؛ لأن التيمم مشروط بعدم وجود الماء، فإذا تيمم للظهر وصلاها، ثم جاء وقت العصر، فعليه أن يعيد الكرة بأن يطلب الماء، فإن وجده استعمله، فإن لم يجده فعنده النص: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:٦] .

إذاً: عليه أن يطلب الماء لكل صلاة، وله أن يتيمم إذا لم يجد الماء بعد الطلب.

وقالوا: اتفق العلماء على أنه لا يحق لمن يصلي بالتيمم أن يتيم قبل دخول الوقت؛ لأن التيمم ضرورة تبيح الصلاة، والصلاة لم يأت وقتها بعد.

وقالوا كذلك: لا يحق له أن يصلي الصلاة الثانية بالتيمم الأول؛ لأن تيممه قبل دخول وقت الثانية، فيكون كالذي تيمم للحاضرة قبل وقتها، وهذا لا يصح.

ثم قالوا أيضاً: كان الأصل في الطهارة مبدئياً (إذا قمتم فاغسلوا) و (إذا قمتم) تقتضي التكرار، أي: كلما قمتم فاغسلوا، وهي الطهارة الأساسية المائية، فقد كان الأمر في البداية إفراد كل صلاة بوضوء، ثم خفف ذلك وجازت عدة صلوات بوضوء واحد، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى عدة صلوات بوضوء واحد، كما في حديث عمر في فتح مكة.

ولكن لم يأت في التيمم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاتين بتيمم واحد، فيبقى الوضوء في طريقه ما لم يحدث: (إذا توضأ صلى ما شاء ما لم يحدث) ، ويبقى التيمم في طريقه عند عدم وجود الماء، وعدم الوجود يكون بعد الطلب، والطلب يكون بعد دخول الوقت.