[الرخصة لمن صلى العيد يوم الجمعة ألا يحضر الجمعة]
قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد، ثم رخص في الجمعة، ثم قال: من شاء أن يصلي فليصل) رواه الخمسة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة] .
يأتي المصنف رحمه الله تعالى بعد بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الخطبة سورة (ق) ويقرأ في الصلاة تلك السور الأربع، ببيان ما إذا اجتمع عيد الأضحى أو الفطر ويوم الجمعة، فالجمعة عيد مستقل، والأضحى والفطر عيد مستقل، وصلاة الجمعة مرتبطة باليوم لا تنفك عنه، فلا تصلى الجمعة في السبت أو في الخميس، فهي مرتبطة بيومها، ولكن عيد الفطر وعيد الأضحى إنما يدوران في الزمن مع القمر، فالأيام تدور دورة شمسية، والأشهر تدور دورة قمرية، فدورة الشمس في أربع وعشرين ساعة، فتأتي بالأيام وبالصلوات الخمس، ودورة القمر في فلكه تأتي بالأشهر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) ، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:١٨٩] .
فهي أشهر قمرية وأيام شمسية، لا تتغير الأيام منذ خلقها الله، فالعيدان مرتبطان بالقمر، فيأتي عيد الفطر في صيف أو في شتاء أو في خريف في أي يوم من الأيام حسب الشهور، وكذلك عيد الأضحى.
وما دام العيدان متنقلين فيمكن أن يوافقا يوم الجمعة، فيجتمع عيدان: عيد الجمعة ليومها، وعيد الفطر أو عيد الأضحى لمناسبته، وكل منهما يحتاج إلى اجتماع وإلى خطبتين، وإلى صلاة ركعتين، فهل نصلي العيدين معاً الجمعة والعيد الذي حضر، أو نكتفي بواحد منهما؟ فجاء المصنف بهذا الحديث ليبين ماذا يكون على الناس إذا اجتمعت الجمعة مع أحد العيدين، فقال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد ثم رخص في الجمعة) .
و (ثم) للترتيب والتراخي، فصلى العيد في يوم العيد ورخص في الجمعة بعد ذلك.
قوله: (ثم رخص) الرخصة عند الأصوليين مأخوذة من المعنى اللغوي، أي: الشيء اللين، كما قال الشاعر: ومخضب رخص البنان.
ومنه الثمن الرخيص؛ لأن العيشة فيه تكون لينة، بخلاف الثمن الغالي حيث تكون شديدة، فرخص البنان: لينه، ورخص السعر لين العيش، فرخص معناه: ليّن وخفف في الحكم، ولذا تكون الرخصة مع الشدة، والشدة تقتضي الترخيص، ولذا حينما تقع مجاعة أو يكون الإنسان في خلاء، ويشتد عليه الجوع، ولم يجد إلا الميتة -والميتة محرمة- رُخص له أن يأكل الميتة تخفيفاً عليه من حكم المنع الذي يؤدي إلى وفاته.
فالرخصة: رفع حكم بحكم آخر مع بقاء الحكم الأصلي، أو: إباحة ممنوع بنص متجدد بعد المنع مع بقاء حكم المنع، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:٣] مع قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:١٧٣] ، فلما أباح الله ورخص للمضطر أكل الميتة أبقى الحكم على التحريم، وأعطى المضطر رخصة الأكل منها حتى يجد كفاف العناء، فهي في الحال محرمة، ولكن أبيح له، ولذا قالوا: الحدث يمنع الصلاة، وقد لا يجد الإنسان ماء أو قد يجده ويعجز عن استعماله، فجاء التيمم بديلاً عن الوضوء، فهل التيمم يرفع الحدث الذي كان يتطلب الماء، أو أنه أباح له الصلاة مع وجود الحدث؟ فالجمهور على أنه أباح له الصلاة والدخول فيها رخصةً، لكن المنع الأساسي موجود، والحدث باق، ومنهم من يقول: التيمم يرفع الحدث.
والصحيح أنه مبيح له مع بقاء الحدث، والدليل على ذلك أن رجلاً كان في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل الصبح، فمضى إليه رسول الله، فقال له: ألست مسلماً؟! قال: بلى يا رسول الله، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، ثم جاءت قضية التيمم فتيمم وصلى، فلما جيء بالمرأة ومعها المزادتان قال: أين صاحب الجنابة؟ قال: أنا.
قال: خذ فأفرغه على جسمك.
أي: من حدث سابق، فهو تيمم رخصة للصلاة، ولكن تيممه الذي صلى فيه لم يرفع عنه الحدث، بدليل: (خذ فأفرغه على جسمك) .
فالرخصة: إباحة الممنوع مع بقاء حكم المنع.
فحكم الجمعة باق، ولذا من أتى الجمعة مع صلاة العيد أجزأته.
وفي بعض الروايات: (وإنَّا لمجمِّعون) .
وعند مالك في الموطأ أن عثمان رضي الله تعالى عنه: اجتمع في عهده العيد ويوم الجمعة، فصلى العيد، ثم رخص لأهل العالية، وأهل العوالي كانوا يأتون يصلون الجمعة في المسجد النبوي في المدينة، فلما اجتمع العيد ويوم الجمعة في عهد عثمان رضي الله عنه صلى العيد بمن حضر، ثم رخص لأهل العوالي إذا رجعوا ألا يرجعوا مرةً أخرى؛ لأن فيه مشقة في الذهاب والمجيء مرتين للعيد وللجمعة، وهنا رخص صلى الله عليه وسلم في الجمعة.
وجاء في بعض السنن أن في خلافة ابن الزبير -وكان في مكة- اجتمع العيد والجمعة فصلى العيد بالناس، ثم جاء الناس للجمعة فلم ينزل إليهم، وطلبوه للجمعة فلم يأت، وكان ابن عباس بالطائف، فلما جاء أخبروه بما فعل ابن الزبير، فقال: أصاب السنة.