[مكان إقامة صلاة الجمعة]
مسألة المكان الذي تقام فيه صلاة الجمعة: الأحناف يقولون: لا تجب في قرية، بل تجب في المدن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى جمعة في قرية.
والجمهور يقولون: قد تطلق القرية على المصر، بل إن مكة المكرمة سميت بـ (أم القرى) ، وكذلك أول جمعة أقيمت بعد الجمعة في المدينة كانت في (جواثاء) وهي قرية من قرى البحرين، بجهة الأحساء اليوم، فأقيمت هناك جمعة وهي قرية.
وعلى هذا فمما يشترط للجمعة الموطن الذي تكون الإقامة فيه، وكما يقول المالكية: قد تكون القرية صغيرة ثم تنمو وتكبر حتى تصير مدينة، فإذا ثبت الاستقرار والإقامة ثبت شرط صلاة الجمعة.
وهناك من يقول: لا اشتراط للمكان ولا للتقري، فإذا وجد جماعة في خيام رحّل: كبعض المعسكرات، أو بعض التجمعات الكشفية أو نحو ذلك، فعليهم الجمعة، والجمهور يقولون: لا جمعة عليهم.
والذين يقولون: عليهم الجمعة يختلفون في العدد المشترط من ثلاثة إلى اثني عشر كما تقدم.
والذي ينبغي أن يعلم أن سياق القرآن الكريم يدل على ما ذهب إليه الأئمة الأربعة من اشتراط وجود القرية، والمقيمين فيها، ولوازم الإقامة؛ لأن جمهور الأئمة الأربعة يقولون: لابد في موطن إقامة الجمعة من حاكم ومن سوق قائم، ومعنى السوق: المحلات التجارية للبيع والشراء التي يمكن لأهل تلك القرية أن يأخذوا منها ضرورياتهم وحوائجهم، والقرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى، والأئمة رحمهم الله ما جاءوا بهذا من فراغ من عندهم، وإن لم يأتِ نص صحيح صريح في هذا الموضوع، ولكنهم أخذوه استنباطاً من كتاب الله، والذي نقوله دائماً: إنه يجب على كل إنسان قبل أن يرى الرأي في نفسه في حكم شرعي أن يرجع إلى أقوال العلماء، وأن يقف على مستندهم في هذا القول.
فلو تأملنا في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:٩] لوجدنا أن كلمة (فَاسْعَوْا) ليس معناها السعي الذي بمعنى الجري، بل إن الحديث يقول: (فأتوها وعليكم السكينة والوقار) ، فالسعي هو الأخذ بأسباب التوجه إلى الجمعة، كقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ} [البقرة:٢٠٥] أي: أخذ بالأسباب {لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة:٢٠٥] .
وقال الشاعر: سعى ساعي غيظ ابن مرة بعدما تبذل مع عشيرته بالدم أي: سعى بالصلح بين القبيلتين وتقول: فلان سعى بالنميمة بين اثنين، وفلان سعى بالصلح بين المتخاصمين، أي: أخذ في أسباب هذا الأمر حتى أتمه، فقوله تعالى: (فَاسْعَوْا) أي: تهيئوا، ومن السعي للجمعة الاغتسال، وتغيير الثياب، ومس الطيب، والتبكير إليها.
ولأجل قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:٩] قال الذين قالوا تنعقد بثلاثة تتحقق تلك الصورة بمنادٍ ينادي وذاكرٍ يُذكِّر وساعٍ إلى هذا الذاكر يسعى لذكر الله، فيكفي الثلاثة لتقام به الجمعة.
والآخرون قالوا: الصورة كاملة وليست جزئية؛ لأن في السياق قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:٩] أي: اتركوا البيع، فهل هذا الأمر بترك البيع والنهي عن الاشتغال بالبيع والشراء يوجه إلى واحد؟ فالمنادي موجود، وذاكر الله موجود، والنداء وجّه لغيرهما ليتركوا البيع، والبيع أقل ما يقع من طرفين بائع ومشترٍ.
فهذا الأسلوب لا يتوجه إلى شخص واحد، بل ولا إلى اثنين، ولا إلى ثلاثة، إنما يتوجه إلى حركة تجارية فيها أخذ وعطاء وبيع وشراء، ثم يأتي بعد ذلك قوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:٩] ، ثم قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:١٠] ، وهل الانتشار يكون من واحد أو اثنين أو ثلاثة أو خمسة؟ فالانتشار معناه: النشور بمعنى الاتجاه في كل جهة، فواحد يتجه إلى الغرب وآخر للشمال.
؛ لأن الانتشار يدل على العدد الوفير الذي ينتشر إلى جهات متعددة.
فقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ.
} [الجمعة:١٠] ، هذه الضمائر فيه كلها لا تكون لواحد او اثنين أو ثلاثة! فلابد أن يتحقق عندنا وجود الأماكن التي تستقر فيها التجارة ويؤخذ فيها بالبيع والشراء.
وهؤلاء المتبايعون المشترون بشر يقع بينهم الخلاف؛ إذ الأسواق هي مواضع الشجار والخلاف، كما قيل: المساجد بيوت الله والأسواق بيوت الشياطين؛ فهناك الخلاف، وهناك النزاع، فهذا النزاع الذي يقع بين المتبايعين من الذي يفضه؟ وقد قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:٢٤] .
فالخلطاء وهم أصحاب الأغنام الذين يختلطون عند الرعي يقع بينهم نزاع، فما بالك بأصحاب السوق، فهذا ميزان راجح، وهذا غشَّ فيه، وهذه سلعة مغشوشة، فقالوا: السوق يحتاج إلى حاكم يفض النزاع، وهذا الحاكم من شروط هذا التجمع، بل جاء في الحديث: (إذا كان ثلاثة لم يؤمروا عليهم أميراً استولى عليهم الشيطان) ، فلا بد من وجود شخصٍ يرتضيه الجميع يكون المرجع إليه عند النزاع، فإذا اجتمعت قرية واجتمع سوق وبيع وشراء فلا بد من أمير، فشرط الفقهاء أن توجد قرية فيها سوق فيها أمير.
وهكذا نجد أن النص القرآني الكريم في سياق هذه القضية يؤخذ منه ما توصل إليه الأئمة الأربعة رحمهم الله من ضرورة وجود قوم مقيمين، أو من ضرورة إقامة الجمعة في القرية المستقرة التي لها سوق وفيها أمير -أي: حاكم- يحكم بين الناس، وعلى هذا فإقامة الجمعة في البساتين، أو في الخلوات، أو في أماكن التنزه، أو في غير ذلك فإنها على خلاف كتاب الله، وخلاف ما عليه الأئمة الأربعة، وخلاف ما عليه أصحاب السنن الست، وبالله تعالى التوفيق.