قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) رواه الترمذي وأبو داود وحسنه، وصححه الحاكم، واستنكره أبو حاتم الرازي، وأخرجه جماعة من الحفاظ.
وهو شامل للعارية] .
الحديث الثاني في هذا الباب أيضاً أعم من العارية، (أد الأمانة إلى من أئتمنك) انظر: (من ائتمنك) : يعني: لا تخلف ظنه فيك، ائتمنك واعتبرك أميناً، فأمَّنك أمانة، والأمانة والأمن مأخوذان من لفظ واحد فكأنه آمن على سلعته عندك، وهي آمنة عندك من الضياع، وأنت أمين عليها، فيجب عليك أن تحفظها.
(أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) : إذا خان: فهل خيانته إياك عيب أو مدح؟ وهل فيها إثم أو أجر؟ الجواب: فيها إثم، فإذا كنت أنت تستنكر عليه أنه خانك فكيف ترتكب ما تنكره عليه؟! قال تبارك وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[النساء:٥٨] ، فعليك أن تؤدي الأمانة إلى صاحبها، والأمانة: لفظ عام شامل سواءً كان في الحقيقة أو المجاز.
أبو طلحة لما مرض ولده وكان شغوفاً به وكلما دخل سأل عنه زوجه أم سليم، وفي يوم من الأيام توفي الطفل وأبو طلحة غير موجود، فقالت لأهله: لا يكلمه أحد قبلي، فلما جاء سأل عن الولد فقالت: إنه في غاية الراحة -ما كذبت ولكن ورّت- فهيأت له عشاءه ثم تهيأت له حتى قضى حاجته.
وانظر إلى القدرة والتحمل عندها، فولدها مات ولم تنزل عليه دمعة عين، ولم يحصل منها ولولة ولا صياح ولا بكاء، واستقبلت زوجها بهذا الاستقبال، حتى في نفسها، فتجهيز الطعام أمره سهل، ولكن أن تتهيأ وتمكنه من نفسها، فأي نفس تقبل هذا الآن؟ ولكن هذا منها كان وفاءً بحق الزوج، وأين هذا الصنف يا إخوان؟! وأين هذه النوعية من النسوة؟ إنها نسوة الصدر الأول من السلف الصالح، فهذه هي الزوجة التي تعين زوجها على كل خير، وتكون فعلاً سكناً له.
لما قضى حاجته قالت: يا أبا طلحة! أرأيت لو كان لجيرانك أمانة عندك فطلبوها أتؤديها إليهم أم تمسكها عندك؟ قال: بل أؤديها.
قالت: إذاً: إن الله قد أخذ ولدك، فقم فواره، فغضب وقال: سكتِ عليَّ حتى أكلت، ودنوت مني حتى اقترفت، ثم تقولين: وار ولدك، ثم غدا في الصباح يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فتبسم وقال: أعرستما البارحة؟ قال: نعم، قال: بارك الله لكما في ليلتكما) ، فأنجبت الولد المبارك وكان منه الخير الكثير.
إذاً:(أد الأمانة إلى من ائتمنك) أياً كان نوعها على سبيل المجاز أو على سبيل الحقيقة، والمراد هنا: الأمانة الحقيقية العينية، ائتمنك على كتاب، ائتمنك على أوراق، أئتمنك على نقد، على آلة، على أي شيء، فأي عين ائتمنك عليها فأدها إليه.