وعن أبي هريرة رضي الله عنه:(في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ماتت، فقال: أفلا كنتم آذنتموني، فكأنهم صغَّروا أمرها، فقال: دلوني على قبرها، فدلوه، فصلى عليها) متفق عليه وزاد مسلم (ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) .
فمن فاتته صلاة على الميت، هل يصلي عليه في قبره، وهل يصلى على الموتى في قبورهم أم لا؟ هذا عنوان المسألة، ولكن جاء المؤلف بهذه القصة، والتي تدل دلالة واضحة على أعلى وأقصى ومنتهى مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، ومنتهى رحمته ورأفته بالمؤمنين، في الحديث: امرأة سوداء، تقم المسجد، أي: تكنس المسجد، مرضت فافتقدها صلى الله عليه وسلم، ولذا فبعض الروايات تقول (وكان صلى الله عليه وسلم يحب المساكين ويتفقدهم، ويزورهم إذا مرضوا) فافتقد هذه المرأة التي كانت تقم المسجد، ما هي امرأة تطعم المصلين، ولا تكسو العارين، ولا تفعل ولا تفعل، بل تقم المسجد، وفي الحديث (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة؛ أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) وفي حديث (حتى القذاة ترفعها من المسجد) فهذه امرأة تقم المسجد، فمرضت، فافتقدها صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، قالوا: مريضة، قال:(إذا ماتت فآذنوني) أي: أعلموني بموتها، قالوا: فماتت ليلاً، فكرهنا إزعاج رسول الله من أجلها.
فهنا تعارض العقل مع العاطفة، العقل يقول: امتثلوا الأمر: (آذنوني) ، والعاطفة تقول: لا تزعجوا رسول الله، فعدم إزعاجه أمر عاطفي ليس عقلياً، وإعلامه بموتها ولو في منتصف الليل، في الليلة المطيرة الباردة أمر عقلي امتثالاً للأمر، وكما يقال في ذلك: إذا تعارض العقل مع العاطفة حصلت الحيرة الشديدة، فقدموا جانب العاطفة؛ لأنهم لم يؤذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إكراماً واحتراماً وإراحة لرسول الله من عناء الليل، فدفنوها، فلما أصبح ما نسيها، فسأل عنها، قالوا: ماتت، قال:(أفلا كنتم آذنتموني، قالوا: كرهنا أن نوقظك ليلاً) فاعتذروا بالعاطفة.
وهنا نجد أن رسول الله لم يعتب عليهم ولم يعنفهم، ولم يعاقبهم، ولم يجعل عليهم إثماً في عدم امتثال الأمر، بل عذرهم بتقديم العاطفة، ولكن ماذا يفعل علاجاً للواقع؟ فقد وقع أمر لم يكن يريد وقوعه صلى الله عليه وسلم، قال:(دلوني على قبرها) تداركاً لما فات، فدلوه على قبرها، فذهب إلى البقيع، ووقف على قبرها، وصلى عليها.
هنا عنوان مسألة: الصلاة على الميت في قبره، والصلاة على الغائب، وهما مسألتان مقرونتان، أما الصلاة على الغائب فسيأتي للمؤلف صلاته صلى الله عليه وسلم على النجاشي، يوم أن مات فنعاه لأصحابه، وخرج بهم وصلى عليه في يومه وهو في الحبشة، وأما الصلاة على القبر فبعض العلماء يقول: لا صلاة على القبر، وبعضهم يقول: يصلي مطلقاً بدون حد، وبعضهم يقول: إلى حدود الشهر، إن كان دفن وهو ممن يحب أن يصلي عليه، أو أنه دفن ولم يوجد من يصلي عليه، فدفن بدون صلاة، قالوا: إنه يصلى عليه في القبر، وإذا دفن بدون غسل أو كفن، وكان الوقت قريباً (قبل أن تتبدد الجثة) نبش وغُسِّل وكُفِّن وصلي عليه، وأعيد دفنه، أما إذا غسل وكفن، ولم يوجد من يصلي عليه، ثم دفن، فيصلى على قبره، بعضهم يقول: إلى ثلاثة أيام قبل أن تتغير الجثة، وبعضهم يقول: إلى شهر، ويستدلون بفعله صلى الله عليه وسلم في الصلاة على القبر.
ثم زادت رواية مسلم عبارة تبيّن ميزة صلاته صلى الله عليه وسلم على الميت (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أصحابها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) وهذا من فضل دعائه صلوات الله وسلامه عليه للميت المقبور، فالله يستجيب دعاء رسوله، وينور القبر على صاحبه.