[صبر أمهات المؤمنين وتعففهن]
إن تلك الحياة التي مرت ببيت النبوة مع ما فيها من أحداث لها جانب آخر يحكي ما كن عليه أمهات المؤمنين من الصبر والتعفف والزهد في الدنيا، كما قالت أم المؤمنين: كان يمضي على بيت رسول الله الهلال والهلال والهلال -شهران بين ثلاثة أهلة- لا يوقد في بيت محمد صلى الله عليه وسلم ناراً: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا} [الواقعة:٧١-٧٣] ، تنضج طعامك، تصنع الشاي، وتصنع وتصنع على النار، أما هنا فلا يوجد، فما كان طعامكم يا أماه؟ قالت: الأسودان: التمر والماء.
ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فيرسل إلى أمهات المؤمنين واحدة تلو الأخرى: من كان عندها طعام فليأت بعشاء الضيف، فكل واحدة تعتذر: ليس عندي شيء، تسعة بيوت ليس عندهن عشاء للضيف! فيتوجه صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه: من يستضيف هذا هذه الليلة وله الجنة؟ أحضروا المقاييس، أحضروا الموازين، أنت تعلم بأن الثمن يعادل المثمن، هذا قيمته ألف ريال، ولو قلت: ألفي ريال فذلك يكون زائداً عن السلعة، ولو قلت: مائتي ريال تكون ناقصة عن السلعة، فعادة يكون الثمن معادلاً للمثمن، فأي ليلة هذه التي ثمنها الجنة؟! الآن أبسط واحد منها الآن بمقدوره أن يعشي عشرة أشخاص، لكن في ذلك الوقت تسعة بيوت لرسول الله ليس فيها عشاء الضيف، كيف كانت تلك الحياة؟ والشيء إذا قل أو انعدم لا يثامنه شيء.
إذاً: (فله الجنة) ؛ لقلة الطعام وندرته، وجاء في القصة: أن الذي ذهب به إلى بيته قال لزوجه: هل عندك من طعام لضيف رسول الله؟ قالت: لا والله إلا عشاء العيال.
قال لها: علليهم حتى يناموا دون عشاء، ثم قدمي الطعام لي وللضيف، ثم اعمدي إلى السراج لتصلحيه فأطفئيه، وأنا سأحرك يدي في القصعة تلتقي مع يد الضيف، أوهمه أني آكل معه، وما أنا بآكل، ولكن أوفر له الطعام.
انظروا إلى هذه الحيلة: أولاده ينامون جوعاً بلا عشاء، وكذلك الزوجة والزوج والطعام بين أيدهما، ولو كان بعيداً لقلنا: صابر، لكنه أمامه، ولا يرفع منه شيئاً إلى فيه.
إذاً: الطعام كان متوفراً.
هذا أحسنهم حالاً الذي رضي أن يأخذ الضيف ليضيفه تلك الليلة، وإذا به ليس عنده إلا عشاء عياله، فيحتال هو وأم العيال على توفير عشاء الضيف.
والله لا أريد أن أقول: إن له الجنة؛ لأنها لو كانت قليلة في هذا أو كثيرة فالرسول قال له: (وله الجنة) .
فلما غدا بضيف رسول الله في الصباح استقبلهما صلى الله عليه وسلم متبسماً وقال: (لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة) ، العملية تضحك فعلاً أن يحتالا لإشباع الضيف على جوع: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:٩] ، وليسوا كل الناس: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:٩] .
فقال: يا رسول الله! أويضحك ربنا؟ قال: بلى.
وهنا أحاديث الصفات، وكذلك الصحابي مر بها وقال: لا عدمنا خيراً من رب يضحك.
هذا تعليقه على صفة الضحك لله، أكثر من هذا لا يوجد، وهكذا كن في بيوت رسول الله تمضي عليهن الليالي وليس عندهن عشاء ضيف! إذاً: كانت تلك البيوت مساكن لهن، ومعاهد لما يجرى فيها من آيات الله والحكمة، وكن يعلمن الناس سواء مباشرة أو عن طريق النسوة، أو بواسطة الزوجات للأزواج، كما قالت أم المؤمنين عائشة للنسوة: مروا أزواجكن أن يستنجوا بالماء، فإني أستحيي منهم.
وهكذا -أيها الإخوة- علينا أن نجدد دراسة حالات المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسبق أن كتبت مقدمة بحث في السيرة النبوية وأنها تنقسم إلى قسمين -في نظري-: سيرة ذاتية، وسيرة تبليغية، والسيرة الذاتية: هي ما كان يتعلق بشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذاته وبيته وفيما يخصه، والسيرة الرسالية: ما كان فيها تبليغ الرسالة للأمة.
والحمد لله رب العالمين.