[بيان بطلان القصة الإسرائيلية المروية عن نبي الله داود]
نحن بين أيدينا عدة تفاسير، وهناك قضايا من المشكلات في بعض التفاسير، وإن كانت مشهورة، وإن كان أصحابها أئمة؛ لكننا نجدهم يسوقون بعض تلك القضايا على علاتها، وبعضها إسرائيليات، ومن تلك القضايا التي ذكروها بعلاتها قضية الغرانيق، ومنها قضية سجود نبي الله داود، ففي قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:٢٣] ، قالوا: النعجة كناية عن الزوجة وعن المرأة، وداود عنده تسع وتسعون زوجة، وهذا الرجل عنده زوجة واحدة، فأرسل داود زوجها إلى القتال ليقتل فيتزوجها بعده! وهذا والله هراء، بل إن أنصاف المجانيين ليستبعدوا ذلك عن أنبياء الله ورسله، وقد نبهنا مراراً أن من يقرأ السورة من أولها يجد القرآن الكريم ناصعاً بيناً، ومقدمات السجدة تنزه نبي الله داود عن ما هو أبعد وأبعد من ذلك كله؛ لأن في أول السياق يقول سبحانه: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:١٧] ، فهذا الوصف من الله لداود: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا) على سبيل التأسي والاتباع؛ لأنه قال: (عَبْدَنَا) وقال: (ذَا الأَيْدِ) وقال: (إِنَّهُ أَوَّابٌ) يعني: اذكره وتأسى به في تلك الصفات، فيكفي أن يقول الله فيه: (عَبْدَنَا) ، والله لا يصطفي للعبودية الخاصة شخصاً بهذه الصفة، حاشا وكلا.
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:١٨-١٩] سبحان الله! ، إنسان تسخر معه الجمادات والجبال والطير، وتسبح لله معه، ثم ينظر إلى امرأة غيره، وعنده تسع وتسعون امرأة، والله! لو كان أعزب لا زوجة له لما فعل هذا.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:٢٠] ، وهل من الحكمة أن يقع في مثل ذلك؟! {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} تعتبر مؤهل علمي لأداء الرسالة: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} لأي شيء؟ ليفصل خصام المتنازعين بالحكمة: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص:٢١] .
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} [ص:٢٦] ، بعدما بيّن القضية ما هي؟ {خَصْمَانِ بَغَى} [ص:٢٢]- وإلى أين جاء الخصمان؟ {تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:٢١] ، دخلوا عليه وهو في معتكفه في عبادته لله وحده، وليس في لهوه ولعبه.
وكان عليه السلام قد قسم زمنه إلى ثلاثة أيام: يوم يدخل فيه المحراب يتعبد، ويوم لأهله يقضي شئونهم، ويوم للقضاء بين الناس، فإذا باليوم الذي جعله للقضاء لا يكفي، فـ (تسوروا المحراب) ، وهل الخصوم الحقيقيون يستطيعون أن يتسوروا المحراب على الملك؟ لا وكلا، إذاً: ليسوا على حقيقتهم، وهل وجدنا في علم القضاء أن خصمين يختصمان وبينهما كما بين الثرى والثريا، فهذا معه تسع وتسعون نعجة ثم يغتصب نعجة لهذا الواحد؟ هل هناك ظلم أكثر من هذا؟! وهل هذه تحتاج إلى قاض يحكم فيها؟ وهل وجدنا ظالماً عاتياً يمشي مع المظلوم: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [ص:٢٢] ؟! وهل هذه تحتاج إلى حكم؟! فلو جئنا إلى عجوز عمياء مخرفة لحكمت فيها، وقالت: أنت ظالم بطلبك النعجة وعندك تسع وتسعون نعجة، فكيف يأتي الخصم الظالم مع الخصم المظلوم طواعية من غير جنود أو قوة، ومن غير إرسال إليهم، وهل رأيت خصمين يأتيان إلى المحكمة طواعية؟! قد تجد الآن قضية في عشرة آلاف أو خمسة آلاف لا يأتي الخصم إلا بعد أن تتعدد الجلسات، وبعد أن ترسل إليه الجندي، ويأتي به بالقوة، فكيف بهذا؟! ثم: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص:٢٢] ، وهل سواء الصراط خفي عليكم حتى تطلبوا الهداية إليه؟! فالقضية بينة من غير شيء.
ثم ينطق سليمان عليه بالواقع: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص:٢٤] أي: الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، وأنت تتعبد في المحراب، ونحن لم نعطك مؤهلات العبادة بقدر ما أعطيناك مؤهلات القضاء؛ وهي الحكمة وفصل الخطاب.
لما أن علم ونطق بـ: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} هنا تنبه {وَظَنَّ} [ص:٢٤] يعني: علم: {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:٢٤] {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:٢٦] ، وقوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} فتناه في ماذا؟ في العبادة، وأنه اشتغل بالعبادة عن المهمة الأساسية التي نصبه الله لها.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ معاذ عند أن ذهب وصلى بأهل قباء العشاء وبدأ بـ (الم) ، وصلى خلفه رجل مسكين يعمل كل النهار في مزرعته، فقال: هذا لا يركع حتى يتم السورة، وأنا لا أستطيع أن أتابعه فانفرد وأكمل صلاته وذهب فنام، فبلغ معاذاً خبر هذا الرجل فقال: هذا الرجل منافق، فبلغت الكلمة إلى الرجل، فجاء إلى الرسول وقال: معاذ يرميني بالنفاق، وقال: كذا وكذا، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (أفتان أنت يا معاذ!) .
فـ معاذ فتن الناس عن دينهم، فهو كان يصلي العشاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويسمع تلاوة رسول الله، فيتشبع روحياً ومعنوياً، ولو قرأ القرآن كله لا يشق عليه، فهو بتلك اللذة وتلك النشوة وبتلك المعنويات مع رسول الله دخل في الصلاة مع أهل قباء، فطول وشق على المأمومين.
إذاً: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ} كانت فتنة داود عليه السلام أنه خص نفسه بالعبادة، وكثير من الخلطاء يبغي بعضهم على بعض خلف الأسوار.
أي الأمرين أولى: أن ينقطع للعبادة داخل المحراب أو أن يجلس يقضي بين الخصوم؟ الأولى أن يقضي بين الخصوم؛ لأن مهمته هي الخلافة، وقد أعطي الحكمة وفصل الخطاب.
إذاً سجدة (ص) من داود عليه السلام إنما هي توبة مما كان عليه، ولذا ترك المحراب وجلس للناس يفصل الخصومات التي بينهم.
وتجد بعض كتب التفسير التي تعد لأئمة التفسير تذكر المرأة، وتذكر كل الذي ذكر فيها، وتجد منهم من يحسن الأسلوب ويقول: إنما داود خطبها على خطبة غيره، امرأة خطبها إنسان، وعلم بها داود فذهب وخطب على خطبة غيره، ونحن منهيون عن ذلك: (ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) .
وتجد آخرين يقولون: وما أداركم أن الخطبة كانت ممنوعة عندهم كما هي ممنوعة عندنا.
وأحسن ما قرأت فيها في تفسير أبي السعود قال: (وقد سوّد كثير من المفسرين -أو قال بعض- في هذه القضية صحائف بمدادهم، أنزه القلم أن يجري بشيء منها) ، وسكت! فأقول: جزاه الله خيراً، نزه قلمه أن يسوق أو يورد ما قيل فيها؛ لأنها لا تليق بنبي من أنبياء الله.
ومن العجب أيها الإخوة! أني وجدت في كتاب: تأويل التنزيل للسبكي؛ وهو كتيب صغير جداً، أنه قال: لا دخل لعنصر المرأة في هذه القضية، وأتمم لكم مرحلتي مع هذه القضية: لما كنت أدرس كان من المقرر علينا هذه السورة، فلما وجدت في أمهات كتب التفسير تلك الروايات الإسرائيلية، أخذت القلم وكتبت على هامش الكتاب الذي أقرأ فيه: لا وجود لعنصر المرأة؛ نظراً لسياق السورة لداود عليه السلام، وامتداح الله إياه في هذه الصفات كلها، ولما جئت عند الاختبار واجهت الأستاذ المدرس، وكانت مقررة علينا في كلية اللغة، وليست في الشريعة؛ لأن فيها أبحاثاً لغوية شهيرة جداً، فسألته: ما رأيك في كذا وكذا؟ قال: نعم هذه ذكرها شيخ المفسرين، فقلت: والله هذه مصيبة، إذا كان الأستاذ الموكل بالتدريس يقرر القصة على الطلاب ويقول: ذكرها شيخ المفسرين، فبدأت أذكر له سياق السورة فإذا به يتجهم، وإذا به ينهر، ويقول: أنت تأتي بأشياء جديدة، فقلت: لا، لا جديدة ولا قديمة، الذي تراه أنت إن شاء الله فيه خير، وعزمت على أنها لو جاءت في السؤال فسأعطيه رأيه الذي هو عليه، حتى لا أكون ضده، وأحتفظ بهذا لنفسي.
ومن العجب يا إخوان! أن تأتي المناسبات، ويأتي إمام جامعة إسلامية كبرى في الشرق الأوسط، وتأتي المناسبة، وأورد عليه الرأي في هذه القضية، فإذا به يعجب به إلى أقصى حد، ويطلب مني تسطيره فسطرته وأعطيته إياه، فأخذه معه إلى بلده، ونشره في مجلة تلك المؤسسة الإسلامية الكبرى.
يهمنا في هذا يا إخوان! أنكم ستجدون في بعض كتب التفسير أنهم يذكرون قضية الغرانيق، وبعضهم يسكت عليها، ولكن بحمد الله والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه قد صفى هذه القضية في أضواء البيان.
وأنا أريد أن أقول: إن سجود المشركين لا يستبعد، وأقول: إن المشركين عرب، وفصحاؤهم فرسان البلاغة، فلما استمعوا لقراءة رسول الله لسورة من كتاب الله، وقد اجتمع كلام المولى سبحانه مع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن معجز، والرسول سيد البلغاء، فلما قرأ القرآن على الحاضرين، كان ذلك حقيقاً أن يسجد المؤمن إيماناً، ويسجد المشرك أخذاً بسحر القرآن وبعذوبة تلاوة رسول الله.
ولقد وجدنا في التاريخ في إعجاز القرآن أن أعرابياً سمع القرآن أول مرة فسجد، فقيل له: لماذا تسجد؟ قال: لعظمة هذا الكلام الذي أسمع، وهو لم يعلم أنه قرآن أو غير قرآن.
إذاً: للقرآن تأثير على القلوب، وقد سمعت الشيخ م