للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الصدقة على الحيوانات والكافر غير الحربي]

وسقي الماء للحيوان فيه أجر، فيه أجر، فامرأة دخلت النار في هرة حبستها ولم تطعمها، وامرأة بغي دخلت الجنة في كلب سقته، كانت تمشي في الطريق واشتد عليها الظمأ فوجدت بئراً، فنزلت فشربت، فخرجت فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من شدة العطش، فقالت: يا ويلتاه! لقد بلغ به الجهد من العطش مثلما بلغ بي، فخلعت خفها، ونزلت البئر وملأته وأمسكته بفمها حتى صعدت، وسقته الكلب، فشكر اللهَ فشكر اللهُ لها، أي: الكلب شكر اللهَ على أنه شرب، أو أن الله شكر لها صنيعها فغفر لها.

وفي الحديث: قالوا: (ألنا في البهائم أجر يا رسول الله؟! قال: في كل ذي كبد رطب أجرٌ) ، حتى الكافر، إذا كان معك زيادة ماء، ووجدت كافراً يموت عطشاً وليس حربياً، فاسقه، فإذا كنا نؤجر في الحيوان ألاَ نؤجر في الإنسان؟! والله سبحانه وتعالى أعلم.

والمتأمل لحالة المتطوع بالصدقة لربما وجده أفضل من فاعل الواجب للزكاة؛ وإن كان الواجب أفضل من النافلة، إلا أن مخرج الزكاة إنما يخرجها عن غنى، لأنه امتلك نصاباً، وبقي عنده النصاب عاماً كاملاً لم يحتج إلى شيء منه، ثم إنه يخرج الزكاة ووراءه من يطالبه بها، وفي الحديث: (من أداها طيبة بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله) .

أما المتطوع فليس هناك من يلزمه، وقد لا يكون مالكاً نصاباً ولا نصف نصاب، فقد يتبرع أو يتطوع بما في يده، فصدقة التطوع يفعلها طاعة لله ابتداءً من نفسه، وإن كانت أيضاً الزكاة المفروضة إنما يخرجها طاعة لله، لكن الزكاة فيها إلزام، وأما التطوع فلا إلزام فيه، إنما هو من دوافع نفسه ويقينه بالله بأنه سيعوضه عن ذلك، وتقدم في الحديث الأول: (سبعة يظلهم الله -وفيه:- ورجل تصدق بصدق فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) ، وهذا بيان لفضل الصدقة وأنها تكون مدعاة أو مستوجبة لأن تجعل صاحبها في ذلك الموقف العظيم وفي تلك النعمة؛ حينما يلجم الناس العرق، وتدنو الشمس من الرءوس، فيكون المتصدق في ظل عرش الرحمن بسبب الصدقة الخفية، وفي الحديث الذي بعده: (المرء في ظل صدقته يوم القيامة) .

فمُخْفِي الصدقة يظلل بعرش الرحمن، ومن آداب الصدقة في كتاب الله إخفاؤها والتلطف بها، وإبداء المعروف معها، وحفظ كرامة المسكين، فيكون المتصدق لطيفاً عفيفاً كريماً يراعي حرمة الإنسان الذي أعوز المال، وقد بيّن سبحانه ذلك فقال: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:٢٦٤] ، وقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:٢٦٣] ، وكان بعض السلف يرى للمسكين الذي يقبل صدقته فضلاً عليه؛ لأنه يكون سبباً في حصوله على مرضاة الله، وعلى مضاعفة ماله والزيادة فيه، فينبغي على الإنسان أن يتحرى، وأن يبحث، وأن يتعرف على مستحقي الصدقة أولاً.

وقوله: (أيما مسلم كسا إنساناً على عريٍ) أعتقد أنه لا يوجد إنسان يمشي في الطريق عريان؛ لأن هذا ممنوع ومحرم، وكان بعض السلف إذا لم يكن عنده إلا ثوبٌ واحد فإنه إذا احتاج إلى نظافته، يغسله ويبقى في البيت إلى أن يجف الثوب فيلبسه، وقد سمعت قصةً -لو صحت هذه! وحاولت بكل جهد أن أصل إليها، ولكن للأسف لم أصل- وهي: أن طالبين كانا في مدرسة واحدة، وفي فصل واحد، وهما توأمان، يحضر أحدهما يوماً، ويغيب الآخر، ثم يحضر من غاب، ويغيب من حضر وهكذا، فعنفهم المدير، وضربهم، وهم يعتذرون: سنأتي لن نغيب، ويتعللون، ولما كثر عليهما الإيذاء والكلام صارحا المدير، وقالا: نحن نصارحك فيما بيننا وبينك فقط، نحن أخوان لا نملك إلا ثوباً واحداً، يأتي به أحدنا، ويجلس الآخر عريان في البيت، فإذا كان الغد تبادلنا الثوب.

فإذا كان الناس بهذه المثابة، ويثابرون على طلب العلم والدارسة، فهذه صورة من كسا مسلماً على عري، فلا يخرج المرء إلى الطريق عارياً، ولا يفعل ذلك إلا المجانين، ولكن تصدق على من كان ذا قلة، وهو من أحوجته الثياب وأحوجته الكسوة، بعض الناس في الحالة العادية ربما عنده الخمسة والستة والسبعة الأثواب، وأتباعها مما تحت الثياب، وقد يكون الشخص ذا ثوبٍ واحد.

وقد قرأنا في تاريخ عمر رضي الله تعالى عنه: أنه كان يرقع قميصه، بل تأتي الرقعة فوق الرقعة، وفي قصة ذهابه إلى بيت المقدس ليستلم مفاتيح المدينة أنهم قالوا: إننا وجدنا في كتبنا أن نسلمها إلى رجل صفاته كذا وكذا، فكتب إليه القواد بذلك، وذهب ومعه خادمه، وكانا يتعاقبان في الركوب، يركب أحدهما ويمشي الآخر، ثم يمشي من ركب منهما ويركب الآخر، فلما دنا من بيت المقدس لقيه الأمراء، وقالوا: يا أمير المؤمنين! إنك تلبس هذا القميص المرقع، وتقدم على غير العرب، وهم يفخرون بالثياب، ويخدعون بالمناظر، دعنا نكسوك قميصاً، فقدموا له قميصاً من الكتان، فلما لبسه نزعه وقال: ردوا عليَّ قميصي، قالوا: فاسمح لنا أن نغسله لك؟ قال: لا بأس، فغسلوا له قميصه المرقع، وكانوا لا يريدون أن يقدم على غير المسلمين بذلك اللباس، وجاءت نوبته في المشي فقال له الخادم: اركب أنت! لقد وصلنا إلى القوم، ولا ينبغي أن نقدم عليهم وأنا راكب، وأنت تقود البعير، فاركب أنت لأنك أمير المؤمنين، قال: لا، هذا حقك، ولابد أن تستوفيه، وكان من فائدة ذلك أنه حينما قدم عليهم قالوا: نعم، هذا الوصف الذي رأيناه عندنا: قميصه مرقع، ويخدم خادمه! أيها الإخوة: ربما يكون الإنسان في حاجة ماسة ولا يعلم حاله إلا الله، وأقول: إن الذي يعرف حقيقة صدقة التطوع هو الفقير؛ لأنه يحس بحاجة أخيه الفقير، أما الأغنياء فهم في حال حسنة، وربما لا يشعرون بغيرهم، وقد قيل: إن السر في صوم نبي الله داود يوماً وإفطاره يوماً أنه سئل عنه فقال: أما اليوم الذي أصوم فيه فأجوع وأتذكر المساكين، وأما اليوم الذي أفطر فيه فأشبع فأشكر نعمة الله عليَّ، وهكذا هنا: (أيما مسلم كسا مسلماً على عري) يعني: أنه فتش، وتحرى، ووجد من يستحق.

إذا كان بيدك قميص تريد أن تتصدق به، فهل تعطيه لمن يجر ثوبه خيلاء، أو لمن يلبس الحرير والكتان؟! أو لمن تكاثرت لديه الملابس، أو على إنسان في برد الشتاء يتأثر بالبرد، ويحتاج إلى هذا الثوب؟ لا شك أنك تبحث عن صاحب الحاجة وتقدمه إليه، وكما قيل: إن الصنيعة لا تعد صنيعةً حتى يراد بها طريق المصنعِ يعني أن توضع في محلها، ومن هنا بيّن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يعامل به هذا النوع من الناس: كساه الله من حلل الجنة، أو من خضر الجنة، والجزاء من جنس العمل.

(وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأٍ سقاه الله من الرحيق المختوم) : الرحيق هو أفضل أنواع الشراب، وقيل: العرب تسمي أعلى أنواع الخمر رحيقاً.

والمختوم أي: المحفوظ المعظم المكرم بخلاف الأشياء العادية التي لا تختم، فتوضع في إناء ولا يعبأ بها؛ لأنها غير كريمة أو غير ذات قيمة، أما الشيء النفيس الكريم فيحافظ عليه، ويختم عليه زيادة في العناية والحفظ.

وهكذا يبين لنا صلى الله عليه وآله وسلم أنك ما دمت متصدقاً وأخرجت الصدقة من ملككَ، وجادت بها نفسك، فانظر أين تضعها؟!