للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأمر بالحج يقتضي الفورية من غير تكرار]

بقي هنا الأمر في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:٩٧] ، يبحث الأصوليون في صيغ الأمر هل تقتضي التكرار وهل تقتضي الفورية؟ أو لا تقتضي الفور وتكون على التراخي؟ نجد أن هذا الأمر لا يفيد التكرار؛ لأن الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالحج فقالوا: (أفي كل عام يا رسول الله؟! يعني: يتكرر، فسكت عنهم، حتى سألوا ثلاث مرات، وفي الرابعة قال: لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم، الحج في العمر مرة) .

ولهذا قالوا: إن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم في العمر مرة؛ لقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:٥٦] فإذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في العمر مرة واحدة خرج من عهدة هذا الأمر، ولكن وردت نصوص أخرى تطلب التكرار، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عندما صعد المنبر: (آمين! آمين! آمين! -وكان المنبر ثلاث درجات- فقالوا: يا رسول الله! سمعناك تؤمن، ولا ندري على ما أمنت؟ قال: أتاني جبريل، وقال: يا محمد! من أدرك شهر رمضان، وخرج ولم يغفر له، باعده الله في النار، قل: آمين، فقلت: آمين، يا محمد! من أدرك أبويه أو أحدهما، ولم يغفر له -أي: ببرهما- باعده الله في النار، قل: آمين، فقلت: آمين، يا محمد! من ذكرت عنده، ولم يصل عليك، باعده الله في النار، قل: آمين، فقلت: آمين) ، فتعين على كل مسلم إذا سمع ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، هذا التكرار بطلب جديد، وليس بالطلب الأول: (صلوا عليه وسلموا تسليماً) وقد جاء في النصوص بيان فضل ذلك: (من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشراً) .

إذاً: الأمر لا يقتضي التكرار.

بقيت الفورية، هل الأمر يقتضي الفورية، أو يكون على التراخي؟ بحث الأصوليون في ذلك، فعند الجمهور -ما عدا الشافعية- الأمر على الفورية، وقال الشافعي: الأمر على التراخي؛ لأن وقت الحج: العمر كله، ومع ذلك يقول: من أخر الحج؛ لكونه على التراخي فمات، أخرج من تركته، وعلى هذا نقول: لماذا لا يُطلب منه الحج على الفور، فتبرأ ذمته ويخرج من هذه الإشكالات.

ولوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في هذا المبحث: الترجيح والتأكيد على أن الأمر للفورية: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:١٣٣] وجاءت نصوص خاصة في الحث على الحج منها: (حجوا قبل أن لا تحجوا) ، وأيضاً: فلو أن سيداً قال لعبده: أعطني ماءً، فذهب العبد ومن الغد جاءه بالماء، فقال له السيد: لماذا؟ فقال: الأمر على التراخي، فماذا يكون موقف السيد من هذا العبد الذي لم يتمثل الأمر الذي كلف به؟ فقد كان على هذا العبد أن يذهب حالاً، ويأتي بالماء لسيده، فيكون قد أدى الواجب عليه، وامتثل الأمر.

والشافعية يقولون: لقد فرض الحج سنة ست من الهجرة، وما حج صلى الله عليه وسلم إلا في السنة العاشرة، ويقول الجمهور: ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج؛ لأن مكة تحت أيدي الكفار، وما فتحت إلا في السنة الثامنة، قيل: ولماذا لم يحج في السنة الثامنة؟ قالوا: لم تكن هناك فرصة للحج؛ لأن فتح مكة كان في رمضان، ثم ذهب إلى هوازن، ورجع إلى المدينة، ولم يتأتى له الحج، ولما قيل: وفي سنة تسع لماذا لم يحج؟ قال الجمهور: لموانع منعته من تنفيذ الأمر، ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر يحج بالناس، ثم أردفه بـ علي رضي الله تعالى عنه ليقرأ على الحجيج سورة براءة، ويعلن للناس: أنه لا عهد لمشرك بعد اليوم، ولا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

إذاً: كان للمشركين عهد، وكان المشركون يطوفون بالبيت عراة رجالاً ونساء، وهل يتأتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر هذا المشهد؟ لا والله، هكذا يعلل العلماء، ولكن التحقيق: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج في تلك السنة؛ لما أعلنه صلى الله عليه وسلم بقوله -في السنة التي حج فيها-: (إن الزمان قد استدار، كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض) ومعنى ذلك: أن العرب كانت عندهم أيام النسيء، يقدمون ويؤخرون في الأشهر، فكانوا ينسئون المحرم إلى صفر، ويقدمون صفر إلى المحرم؛ لأنهم كانت تطول عليهم الأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ لتواليها، وكانوا يغير بعضهم على بعض، فيؤخرون المحرم بحرمته، ويقدمون صفر مكانه؛ ليغير بعضهم على بعض، ولهذا حصل تخلخل في مواعيد الحج، فما كان الحج يصادف ذا الحجة الذي هو وقت الحج، وما كان الوقوف بعرفات يقع يوم عرفة في التاسع من ذي الحجة، وقيل: إن حجة أبي بكر ما كانت في الزمن المحدد يقيناً، ولما استدار الزمن وجاء يوم عرفة مطابقاً لأمر الله وهو اليوم التاسع من ذي الحجة كانت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعت في الزمان والمكان المأمور به.

يهمنا أن الشافعية قالوا: الحج على التراخي، (من استطاع إليه سبيلاً) والجمهور قالوا: الحج على الفور، فعلى من استطاع الحج أن يحج ولا يؤخر.

وجاءت نصوص قد أشرنا إليها من قبل منها: (من استطاع الحج ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً) وعمر يقول: (لقد هممت أن أبعث للأعراب رجالاً على مياههم، ينظرون من استطاع الحج ولم يحج، فليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين! ما هم بمسلمين!) .

إذاً: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:٩٧] على الفور لا على التراخي، ومرة دون تكرار، ولكن التكرار نافلة، كما سيأتي عنه صلوات الله وسلامه عليه.

إذاً: الاستطاعة المشروطة في الحج فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بالزاد والراحلة، وقد كان أناس من اليمن يحجون بلا زاد، ويقولون: نحن المتوكلون، فأمرهم الله بقوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ} [البقرة:١٩٧] تزودوا لسفركم، وتزودوا من حجكم لميعادكم، فلابد من زاد الدنيا للبدن، ومن زاد الآخرة بالعمل، ولا ينبغي لإنسان أن يقول: أنا متوكل على الله، ولم يأخذ بالأسباب التي أمر الله بها، كالزاد هنا، وإلا فإنه متواكل على الناس وليس متوكلاً على الله.