للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حث الشرع على المبادرة بحقوق الأجراء]

[وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) ، رواه ابن ماجه.

وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي يعلى والبيهقي، وجابر عند الطبراني، وكلها ضعاف] .

كلها ضعاف ولكن ضعيفان يغلبان قوياً، إذا تعددت روايات الحديث الضعيفة يشد بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض، وهنا مشى الحديث على مقتضى العقل، بمعنى: أنه ما خرج عن الأصل (أعطِ الأجير حقه قبل أن يجف عرقه) والمراد من هذا: سرعة دفع الأجرة، وإلا فقد يجف عرقه وهو في محل العمل ويأتيني إلى البيت ليأخذ حقه، أو يأتي من الغد، الغرض في الإطار العام للحديث إنما هو الحث على المبادرة بدفع الأجرة للعامل، والإشارة هنا: (قبل أن يجف عرقه) ، إشعار بأن الأجير بذل جهداً حتى عرق جبينه وجسمه، والعرق هذا يأتي عن مجهود؛ فلا ينبغي أن تستفيد وتأخذ جهده الذي أضناه عرقاً، ثم تتركه الذي بذل هذا الجهد يريد أن يتعشى، فقد ضيع ما عنده في معدته من طعام فيحتاج إلى الأكل، وحقه عندك؛ فلا ينبغي أن يبيت طاوياً جوعاً وحقه في يدك، ليس إنصافاً أن تستوفي حقك ولا توفه حقه، وهذه هي العدالة.

أما الذين يماطلون في أجور العمال، ومن يحتال على من استقدمه، ويؤخر راتبه إلى أن يضطر إلى مد يده، أو يتركه في السوق وجد عملاً أو لم يجد، وقد يزيد الطين بلة بأن يفرض عليه إتاوة شهرية، وهل أنا وجدت عملاً! أعطني عملاً لكي أعمل وخذ الذي تريد.

يقول: هذا ليس من شأني، اذهب أنت وابحث.

هذا من الظلم بمكان، وهذا ينبغي أن ينظر فيه، ويلزم كفيله الذي استقدمه بنفقته وأجرته، وقد بحث مجلس هيئة كبار العلماء هذه المسألة، ونصوا على أن ما يأخذه الكفيل سحت، لماذا يأكل من عرق الآخر؟ اتركه يعمل ويأخذ أجره على عمله، وإن كنت تحتاجه دعه يعمل عندك.

الذي يهمنا في هذا: أن بعض المؤسسات تستقدم عمالاً لدوائر حكومية -لا حاجة إلى تسميتها- ثم يؤخرون أجورهم الشهرين والثلاثة والستة أشهر، من أين سيأكل هذا العامل؟ ينبغي أن يعلم الجميع أنه سيحتال في المؤسسة التي يعمل فيها ليحصل على طعامه إما برشوة، أو باختلاس، أو بسرقة، أو بغش.

بأي شيء، ما دام صاحب المؤسسة منعه الأجر، وفمه ليس مغلقاً، والمعدة ليست مسدودة، لابد أن يمضغ شيئاً، من أين يأتي به؟ يرجع إلى صاحب العمل في مؤسسته.

إذاً: ينبغي مراعاة هذا الموضوع، وهذا الحديث يقضي على كل من استقدم إنساناً أو تعاقد مع إنسان أو آجر إنساناً في أي عمل كان فاستوفى عمله أنه لابد أن يوفيه أجره.

وهنا ناحية شرعية في باب الفقه والعقود عند قوله: (أعط الأجير أجره -متى؟ - قبل أن يجف عرقه) ، وعرقه يأتي قبل العمل أو بعده؟ إذاً: الأجير يستحق أجره بعد أن يوفي العمل، استأجرته يبني لك بيتاً ينشر لك خشباً يفعل لك ما تريد، ليس له الحق أن يقول: أعطني أجرتي أولاً.

لا؛ لأني لم أستوفِ العمل، وما يضمن لي أنك لا تهرب وتترك عملي، وتأخذ فلوسك وتذهب؟ لكن تبقى الأجرة عند المستأجر، ويستحقها الأجير بعد إتمام عمله، فإذا أتم عمله ووفاه هناك يستحق أن يقول: أعطني.

وقدمنا قضية النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، ومنهم واحد صاحب أجير، قدم له أجره صاعاً من شعير فتنقصه وذهب مغضباً، ثم بعد مدة جاء يطلب أجره، فوجد صاع الشعير وادياً من الغنم والإبل والبقر، قال: اذهب لذاك الوادي فما وجدته فخذه فهو أجرك.

كان يحسب أنه كيس شعير أو شيء من هذا، فإذا به يجده حقاً، فرجع وقال له: أتهزأ بي لأني فقير! قال: لقد نميت لك أجرك من يوم أن ذهبت عنك فتناسل وتكاثر، فهذا أجرك.

فأخذه، وقال في الحديث: (فأخذه ولم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت عنهم الصخرة) ، كل واحد من الثلاثة يدعو وتنفرج عنهم الصخرة قليلاً حتى استطاعوا أن يخرجوا.

فهكذا حرصه على أجر الأجير ولو غضب وترك أجره وذهب، لا أقول له: مع السلامة.

ثم يقول له: ليس لك عندي أي شيء، أعطيتك وما رضيت لا، ليست هذه مروءة، إنما عليه أن يحتفظ بأجر الأجير ويدفعه إليه، وإن نماه إليه كان فضلاً منه؛ لأن هذا الذي نمَّى صاع الشعير حتى أصبح وادياً من النعم كان من حقه أن يكون شريكاً له على سبيل المضاربة؛ لأنه أخذ مال الأجير الذي هو أجره وعمل فيه ونماه، وشركة المضاربة هي: أن يأخذ إنسان مالاً من إنسان وينميه على النصف من الربح، لكن هذا تعفف ولم يأخذ منه شيئاً، ودفع إليه كامل الأجر بنمائه.

والله تعالى أعلم.