إذا أقام المسافر متردداً فإلى أي مدة يقصر؟
إذا كانت إقامته غير محدودة ولا يعلم متى سيرحل، فما حكمه في تلك المدة؟ سيأتي بيان ذلك في روايات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سواء كانت في مكة أو في تبوك.
قال المصنف: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوماً يقصر) ، وفي لفظ: (بمكة تسعة عشر يوماً) .
] كم كانت إقامته صلى الله عليه وسلم في الحج؟ أربعة أيام، ثم بعدها سفر متواصل إلى منى، فعرفات، فمزدلفة، فمنى ثلاثة أيام، فالعودة إلى المدينة، فأطول مدة أقامها صلى الله عليه وسلم في سفر الحج هي ما بين وصوله إلى يوم التروية، وهو اليوم الثامن، والباقي كله سفر متواصل، وهنا أقام في مكة تسعة عشر يوماً.
فيكون قطعاً ليس في الحج، إنما هو في الفتح.
هل ظل صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة تسعة عشر يوماً، ولماذا؟ نعم.
ظل يقصر خلال هذه المدة.
قالوا: لأنه لم ينو إقامة ولم يحدد مدة، ولم يكن يعلم متى سيرجع.
إذاً: لم يكن هناك تحديد للمدة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم متى ينتهي الموقف، ولكنه صلى الله عليه وسلم انتهى من فتحها -مكة- في يومها والحمد لله وتم الأمر، ولكنه لم يعلم متى ينتهي من الذين جمعوا له من هوازن، ومن هنا انتظر يعبئ الجيش ويهيئه للقتال وخرج معه عشرة آلاف مقاتل، وهناك من مكة خرج معه ألفان من مسلمة الفتح ومن غير المسلمين، حتى أن من المشركين من خرج مع المسلمين حمية ودفاعاً عن مكة.
ولما انتهى من أمر هوازن ونصره الله عليهم وغنم غنائم حنين، ورجع إلى مكة توجه إلى المدينة حالاً.
إذاً: هذه المدة -التسعة عشر يوماً- لم تكن مقررة من قبل، إنما قررها الواقع، ولما انتهت المهمة ولم يبق للإقامة حاجة عاد صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة.
وهنا نجد الروايات: (تسعة عشر، سبعة عشر، ثمانية عشر، خمسة عشر) كل هذه الروايات جاءت فيما يتعلق بالمدة التي أقامها صلى الله عليه وسلم في مكة، وجاءت أيضاً في تبوك عشرين يوماً، أما روايات ابن عباس في مكة -تسعة عشر سبعة عشر خمسة عشر ثمانية عشر فيقولون: إن البيهقي رحمه الله جمع بين تلك الروايات وقال: لا تعارض بينها، فمن قال: تسعة عشر يوماً حسب يوم الدخول وحسب يوم الخروج، ومن قال: سبعة عشر يوماً أسقط يوم الدخول ويوم الخروج، فلا تعارض حينئذٍ، ومن حسب ثمانية عشر يوماً أسقط يوم الدخول يوم الخروج أو العكس، والذي قال: خمسة عشر؟ قالوا: هي الرواية صحيحة، ولكنها في علم الحديث شاذة، لأنه لا يمكن الجمع بينها وبين سبعة عشر، وتسعة عشر) .
وعلى هذا: وجد عندنا إقامة بدون تحديد مدة وفيها القصر إلى تسعة عشر يوماً، فهناك من العلماء من قال: إذا أقمنا في أثناء السفر إقامة غير محدودة ولا معلومة النهاية قصرنا تسعة عشر، والآخر يقول: قصرنا خمسة عشر يوماً احتياطاً، وعدنا إلى إتمام الصلاة، ولكن أكثر العلماء على تسعة عشر، وربما نجد من يروي عن بعض العلماء غير الأئمة الأربعة شهراً، على ما جاء في رواية عن علي رضي الله تعالى عنه، وربما وجدنا من يقول: إذا كانت الإقامة غير معلومة ولا محددة فظلت أطول من تسعة عشر أو عشرين، أو ثلاثين يوماً، فيظل المسافر يقصر حتى يعود إلى بلده، وهذا كما يقولون في شرح الحديث: مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو المنصوص عليه في فتح القدير شرح الهداية قال: (قصر ولو سنين) .
والجمهور يقولون: لابد من اعتبار الرخصة في أساسها، وإذا كان الأصل في الصلاة إتمامها وجاء القصر رخصة: (تصدق الله عليكم بها فاقبلوا صدقته) ، والرخص إنما هي توقيفية فلا تتعدى محلها، ووجدنا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حالة الإقامة المعلومة المحدودة أنه يقصر الأربعة الأيام فنحن كذلك نقصر، فإذا زدنا في مدة معلومة عن الأربعة رجعنا إلى الأصل فأتممنا من أول يوم، فكذلك في الحالة التي لا يعلم فيها متى تنتهي الإقامة نقف عند المدة التي وردت لنا من فعله صلى الله عليه وسلم، وهي تسعة عشر يوماً.
ويقول الشوكاني: نحن قد وقفنا على الرخصة من فعله صلى الله عليه وسلم في المدة التي لا تحديد لها إلى تسعة عشر يوماً إلى عشرين، فإذا قصرنا في مثل هذه الحالة نكون مقتدين آخذين وعاملين بالسنة التي وردت لنا من فعله صلى الله عليه وسلم، فإذا أقمنا أكثر من عشرين يوماً كخمسة وعشرين يوماً، فالعشرون يوماً أخذنا بها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخمسة إذا قصرنا فيها لم تكن داخلة في الرخصة.
فـ الشوكاني رحمه الله يقول: ما زاد عن الأيام التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست داخلة في الرخصة، ومن قصر أكثر من تلك المدة يكون عاملاً بغير دليل ولا مستند، ثم يقول: لو قدر أن إقامته صلى الله عليه وسلم طالت في مكة أو في تبوك فوق العشرين يوماً فهل نعلم ماذا كان سيفعل بعد العشرين؟ هل يستمر على القصر أم يرجع إلى الإتمام؟ فالأمر محتمل للاتمام والقصر، فإذا كان الأمر محتملاً في التقدير العقلي فممكن أن يظل يقصر مستصحباً حكم السفر، وممكن أن يرجع إلى الأصل مكتفياً بهذه المدة، فما دام الاحتمال قائماً، على قدم المساواة، وليس عندنا ما يرجح واحداً منهما، فحينئذٍ إذا تعادل الاحتمالان نرجع إلى الأصل الذي لا احتمال فيه، فنرجع إلى إكمال الصلاة ونصلي أربعاً، ونأخذ المدة التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم، ثم بعدها نرجع إلى الأصل؛ لأنه ليس عندنا نص نعتمد عليه أكثر مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.