[سورة (ق) وما فيها من فوائد وعبر]
وانظر إلى مستهل السورة حيث يقول تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:١] ، والحروف المقطعة كـ (ق) و (ص) و (ن) و (طه) و (يس) و (ألم) سواءٌ كانت حرفاً واحداً أم حرفين أم ثلاثة أم أكثر من ذلك، يعجز إنسان أن يقول فيها قولاً قاطعاً؛ لأنها من أسرار ومعجزات الكتاب الكريم، وغاية ما قال العلماء إنها حروف مقطعة بمثابة التحدي الرمزي، فلما تحدى الله العرب بقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور:٣٤] ، وعجزوا عن المماثلة بسورة منه أخبرهم تعالى: أن هذا الذي عجزتم عنه ليس بغريب ولا بعيد عنكم، إنما ألف من لغتكم العربية قرآناً عربياً مبيناً، ومجموع حروفه من تلك الحروف التي تتكلمون بها، وتنظمون بها أشعاركم وخطبكم، فهو من (ق) و (ص) و (ن) و (ألم) و (ألر) و (كهعيص) ، فكيف تعجزون عن هذه المادة الأساسية التي منها نظم؟ وقالوا: هذا بمثابة من يأتي إلى أمة بجهاز ويقول: هذا جهاز يحفظ الكلام، فيقول إنسان: ما الذي فيه؟ وهل يمكن أن نعمل مثله،؟ فقيل له: اعمل مثله فعجز، فقيل له: لماذا تعجز فهذا الجهاز عبارة عن أسلاك، وقوى مغناطيسية وشمعات، ثم أتي بالمواد الأساسية لجهاز مثله، وقيل له: اصنع جهازاً مثله، فإذا به ينظر ويعجز أن يصنع مثله مع وجود المادة الأساسية بين يديه.
وقد استدل العلماء على ذلك الاستنباط بأن سور القرآن التي تبدأ بالحروف المقطعة غالباً ما يأتي ذكر القرآن بعدها كقوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:١] ، وقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:١] ، وقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:١-٢] أي: القرآن، وقوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:١-٢] ، وقوله تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [طه:١-٢] ، فقالوا: يعقب تلك الحروف المقطعة الحديث عن القرآن، فكأنه يقول في مثل قوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ} [يس:١-٢] : إن القرآن جمع من هذه الحرف.
والله أعلم بالحقيقة.
وفي قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:١] يقسم الله سبحانه وتعالى بالقرآن مع أن منكري البعث ينكرون القرآن، فكيف يقسم لهم بما ينكرونه؟ والجواب: أن ذلك من باب أن إنكارهم واهٍ وملغى لا قيمة له؛ لأنه عن جهالة.
وقوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ} [ق:٢] يعني ما كذبوا بالقرآن، ولكن هذا إضراب {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:٢] ، فعجبوا أن الوحي يأتي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف:٣١-٣٢] ، فالله يخبرهم أن الأكل والشرب الذي نهايته إلى فناء قد قسمه بينهم، ورحمة ربك أعظم من ذلك فلن يتركها لاختيارهم {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:٣٢] لا والله، فنحن قسمنا بينهم ما هو أدنى من ذلك مقداراً وهو المعيشة {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:٣٢] .
قال تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:٢-٣] ، فقالوا: عجيب أن ينذرنا بالبعث، ثم استنكروا فقالوا: (أئذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد) ، وقد أجاب الله تعالى عن استبعادهم بقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق:٤] ؛ لأنهم يقولون: بعد أن نغيب ونضل في التراب ما الذي يجمعنا؟ ومن ذلك ما ذكره تعالى في آخر سورة يس {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:٧٨] ، فقد جاء هذا الرجل بعظم بال قد رم من طول الزمن، ثم فتته بيديه، ثم قال: يا محمد! من يحيي هذه العظام؟ في موقف المتحدي المستبعد إحياء العظام وهي رميم، وقال تعالى عنه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:٧٨] فنسي وجوده، ونسي كيف وجد، وبكل هدوء يجيء الجواب: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٩] ، ثم ذكر الأدلة على قدرته على ذلك، ثم قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢] .
وهنا يقول تعالى عنهم: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:٣] فهم يستعبدون هذا؟ لأنهم صاروا تراباً، واختلط العظم بالتراب، وذهب اللحم والدم في حسبانهم فلم يبق شيء، قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:٤] ، فعلم الله سبحانه بكل أجزاء الإنسان، وما تنتقصه الأرض من تلك الأجسام، وما يغيب فيها وما يضل في ثراها، فالله سبحانه لديه كتابٌ حفيظ بذلك كله.
فالله تعالى يقول: (قد علمنا) ولم يقل: (سنعلم) ، {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:٤] .
قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:٥] أي: مختلط عليهم.
ثم قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:٦] أي: ألا ينظرون إلى هذا الخلق العظيم، فهذه السماء بنيت وزينت وليس فيها من شقوق ولا فروج، فهذا الخلق متى رفع بغير عمدٍ ترونه؟ ومن الذي خلقه ورفعه،؟ قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:٥٧] .
قال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [ق:٧] ، وهذه الجبال من نصبها؟ ومن جمع حجارتها؟ قال تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق:٧] صنف بهيج متغاير، فالتربة واحدة والماء واحد ولكن النبات مختلف {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:٨] .
قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:٩-١٠] فأنبت بهذا الماء جنات وحب الحصيد ونخلاً وزيتوناً ورماناً، فالتربة واحدة والماء واحد، فمن الذي غاير بين هذه النباتات في أشكالها وفي ثمارها وفي طعومها وفي أوضاعها؟ قال تعالى: {رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:١١] أي: كما أحيينا البلدة الميتتة بالماء، كذلك خروجكم، فأقام الأدلة على البعث.
وأدلة البعث في القرآن أربعة، وهنا جاء أكثرها وهي ثلاثة: فمن أدلة البعث خلق السماوات والأرض، قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:٥٧] .
ومن أدلة البعث خلق الإنسان، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْييِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:٧٨-٧٩] .
ومن أدلة البعث إحياء الأرض بعد موتها، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس:٣٣] ، والآية الأخرى: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [فصلت:٣٩] .
وهنا أيضاً قال تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق:١٠] إلى قوله تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:١١] واسم الإشارة (ذلك) راجع إلى المصدر الموجود في (أحيا) أي: أحيينا به بلدة ميتة، ومثل ذلك الإحياء للبلدة للميتة يكون إحياؤهم.
وبقي من أدلة البعث: إحياء الموتى بالفعل، وقد جاء ذلك في قتيل بني إسرائيل في قصة البقرة التي أمروا بذبحها، والألوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فقال لهم الله: {مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:٢٤٣] ، وطلب إبراهيم: {رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:٢٦٠] فهي عملية مشاهدة في طيور متعددة.
والعزير وحماره وطعامه الذي لم يتسنه كذلك، وحوت موسى عليه السلام، الذي كان قد طبخ ليتغدى به، فإذا به عند الماء يأخذ طريقاً في البحر سرباً.
في مقدمة هذه السورة الكريمة إقامة الأدلة على البعث من ثلاثة أوجه، وهي من مجموع أربعة أوجه في كتاب الله، فمن هنا كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (ق) .
ثم تأخذ السورة بعد ذلك في بيان ذلك اليوم، وفي جزاء المحسنين، إلى آخر ما في السورة الكريمة.
وهل كان صلى الله عليه وسلم يقرؤها دائماً؟ قال بعض العلماء: في غالب أحواله، ولم يكن ذلك بصفة دائمة، وكما قدمنا فإنه لا يتعين على كل خطيب أن يقرأ بها، فإن قرأ بها فلا مانع، وإن قرأ ببعضٍ منها فلا مانع، وإن قرأ غيرها فلا مانع، وبالله تعالى التوفيق.