للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[هل التيمم مبيح للصلاة أم رافع للحدث؟]

ثم قال (فإذا وجد الماء) أي: بعد العشر سنوات، (فليتقِ الله وليمسه بشرته) ، يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: هذا الحديث من المشكلات.

فقوله: (فإذا وجد الماء فليتقِ الله وليمسه بشرته) ، هل يمسه بشرته لما مضى وتيمم من أجله، أو يمسه بشرته لما يستقبل من الصلوات الجديدة ويصليها بطهارة مائية؟ ومن هنا ينشأ السؤال: رجل أجنب وتيمم وصلى، ثم بعد يوم أو يومين وجد الماء، فهل يمسه بشرته لتلك الجنابة الماضية، أو لما يستقبل من الجنابة أو الحدث؟ وهل التيمم رافع للحدث أو مبيح للصلاة؟ والإشكال في ذلك يقول رحمه الله: إذا كان قد صلى بالتيمم فمن قال: إنه رافعٌ للحدث فإن الصلاة صحيحة، والحدث ارتفع وإلا لما صحت الصلاة، والآخرون يقولون: لو لم يكن الحدث باقياً لما أمره أن يغتسل بعد أن وجد الماء.

إذاً: إن قلنا: يغتسل فمعناه: أن الحدث موجود، وإن قلنا: يصلي، فمعناه: أن الحدث ارتفع، فالأمران متعاكسان في هذا الحديث, ولذلك من قال: إن التيمم ليس رافعاً للحدث، ولكن الحدث ليس موجوداً وقت الصلاة, قال: إنما التيمم رافع للحدث وقت الصلاة.

ولكن يقال: التيمم مبيح للصلاة وليس رافعاً للحدث، فهو مبيح للصلاة مع وجود الحدث، وذلك نظير الرخصة في أكل الميتة، فإن النص بتحريم الميتة موجود وهي محرمة، لكن أبيحت مع التحريم للضرورة والاضطرار, إذاً فحكم نجاسة الميتة عندما يأكلها المضطر موجود، ولكنها أبيحت له إبقاءً على حياته، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:٣] فهي محرمة ولكن: {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:١٧٣] (فلا إثم) للحرمة الموجودة، وكذلك هنا حينما لم يجد الماء، فتيمم مع وجود الحدث، لكنه أبيح له أن يصلي بهذا التيمم.

وقوله: (فليتقِ الله وليمسه بشرته) ، يقول العلماء: يمسه بشرته للجنابة الماضية، ويكون الحدث باقياً، ويترفع بعد أن وجد الماء لعدة سنوات أو أيام، وهل يمسه للمستقبل؟ نقول: أما للمستقبل فلا يحتاج؛ لأن الله يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:٦] ، فالأمر بالغسل للجنابة مع وجود الماء موجود ولا يحتاج إلى التنبيه عليه هنا.

إذاً: قوله: (فليمسه بشرته) ، إنما هو للحدث المتقدم الذي تيمم بسببه وصلى، ويؤيد هذا قضية المرأة ذات المزادتين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، وعند رجوعهم انتهى الماء عليهم، فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ومعه شخص آخر ليطلبا الماء، فذهبا يطلبان الماء، ومشيا مدة طويلة فلم يجدوا ماءً، ثم وجدا ضعينةً راكبة على بعير بين مزادتين، وهي امرأة من المشركين كانت على بعير لها، وعلى البعير مزادتان، أي: قربتان كبيرتان مليئتان بالماء، فسألاها: أين الماء؟ فقالت: الماء عهدي به أمس الساعة -أي: من أمس مثل هذا الوقت وأنا أمشي من عند الماء- ففكر: هل يذهبان ويبحثان عن الماء بعد أربعة وعشرين ساعة؟ فتشاورا فاقتاداها إلى رسول الله بما معها، قالا لها: إذاً اذهبي معنا إلى رسول الله، فقالت: من رسول الله؟ ذاك الصابئ؟ قالا: الذي تعنين، فأتيا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بإنزال المزادتين، ثم أخذ من كل واحدة من المزادتين جزءاً في إناء، وقرأ ودعا وبرك في ذلك، وأعاد الماء الذي قرأ فيه ودعا في المزادتين، ثم نادى في الجيش: من أراد الماء ليشرب؟ من أراد ليسقي دابته؟ من أراد ليملأ وعاءه؟ فامتلأت أوعية الجيش, وشرب الناس وسقوا دوابهم، واكتفوا في كل حاجتهم من الماء.

وقد كان صلى الله عليه وسلم في صبيحة ذلك اليوم رأى رجلاً معتزلاً الناس لم يصل، فقال: (ما بالك لم تصل مع الناس, ألست بمسلم؟! قال: بلى يا رسول الله! ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال: الصعيد وضوء المسلم) ، فتيمم الرجل وصلى، فلما جيء بالمزادتين وأفاض الله على الجميع بالماء، أخذ ماءً في إناء وقال: أين الرجل؟ يقصد الذي أجنب، قال: هأنا, قال: (خذ هذا فأفرغه على جسمك) ، وهنا يقال: الرجل تيمم وصلى، ثم دعاه الرسول وأعطاه الماء، وأمره أن يغتسل الجنابة التي تيمم لها؛ لأنه لم يجنب جنابة جديدة، ولم نعلم ذلك، وحتى لو أجنب ما علمنا بذلك، نحن نعلم الجنابة المتقدمة فقط.

وفي تتمة هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمرأة: (انظري ما انتقصنا من مائك شيئاً، ولكن الله الذي سقانا، وقال: اجمعوا لها، فجمعوا لها ما معهم من الطعام وحملوه على المزادتين) ، وذهبت إلى قومها فقالت: يا قوم! رأيت عجباً، رجلاً إن كان ساحراً لهو أعظم السحرة، وإن كان نبياً لهو نبي حقاً، وقصت لهم القصة, فكان الصحابة إذا أغاروا على الأحياء يتجنبون حيها إكراماً لها؛ فقالت: يا قوم! والله ما ترككم القوم عجزاً عنكم، ولكن إكراماً لكم، فأسلموا خيراً لكم, فأسلموا.

والذي يهمنا في هذه القضية من الفقه أن الرجل تيمم وصلى، وهذه الجنابة باقية عليه، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه الماء لما علم من الجنابة السابقة، وأمره أن يغتسل، ولكن هل أمره أن يعيد الصلاة؟ لا؛ لأن الوقت قد خرج.