[استئذان الأعمى ودلالته الفقهية]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فرخّص له، فلما ولّى دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم.
قال: فأجب) رواه مسلم] .
هذا الحديث من أقوى أدلة من يقول: إن الجماعة إنها واجبة على الأعيان، ثم ننظر هل هي شرط صحة، أم هي واجب مستقل؟ قالوا: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، وهذا الوصف قد اعتبره الله سبحانه وتعالى رافعاً للحرج، فقال الله: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:٦١] ، وإن كان أصله في الجهاده لكنه من موجبات رفع الحرج، فهذا الوصف الموجود في هذا الرجل من الأوصاف المعتبرة في رفع الحرج، فجاء الرجل بعذره معه قائلاً: ليس لي قائد، فائذن لي أن أصلي في بيتي، فرخَّص له.
وما قال: فأَذِنَ وسمح، ولكن قال: (رخَّص) ، والرخصة تكون من واجب، والأعمى طلب الرخصة فرخَّص له، فلما رخّص له أخذ الرخصة وولى، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هل تسمع النداء بالصلاة؟ وفي رواية: أتسمع الإقامة؟ -وكلاهما نداء-؟ قال: نعم، قال: فأجب) .
فالذين يقولون: هي واجبة على الأعيان قالوا: هذا أعمى رُخِّص له ثم سلبت الرخصة، وقال به: (أجب) .
فقالوا: هو أعمى يشق عليه.
فقيل لهم: هل هذا كان يصلي في بيته، أم أنه من سابق كان يأتي إلى الصلاة ويعود، لكنه اعتراه شيءٌ جديد، وطلب الرخصة للمستقبل، وفي ما مضى كان يأتي؟ فما دام أنه كان يأتي ويعود سابقاً فما الذي يمنعه الآن؟! وما الذي استجد في الأمر؟! فيجب أن يحافظ على ما كان عليه.
وفي بعض الروايات أنه قال: (لا أجد لك رخصة) .
فالذين قالوا: هي واجب وجوباً عينياً قالوا: هذا رجل أعمى رخَّص له، والرخصة إنما تكون من واجب، ثم دعاه فقال: (أجب) .
فقالوا: يجيب النداء لأنه نداء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالوا: لو قلنا بالوجوب، لتعين أن يكون الوجوب لخصوصية الصلاة مع رسول الله، وليس في الحديث أن يجيب كل دعاء، ولا كل نداء يسمعه.
فهو احتمال يُسقط الاستدلال.
إذاً ففي حديث الأعمى رخص له أولاً، ثم أمره أن يجيب ثانية، وهذا كأنه يعيد إلى القاعدة شيئاً من ثباتها، مع أنها لا زالت مزعزعة، ولكن هذا قد يساندها.