[أدلة المانعين والمجيزين لإهداء ثواب قراءة القرآن]
الناس تنقسم في هذه المسألة إلى قسمين: أم المؤمنين عائشة والشافعي يمنعون من ذلك، وهو قول لـ أبي حنيفة رحمه الله، والجمهور يجيزونه، المانعون بماذا يستدلون؟ والمجيزون بماذا يستدلون؟ أولاً: المجيزون من أقوى أدلتهم هذا الحديث؛ لأنه أقرهم على إفادة الغير بالفاتحة، وأخذوا الجعل وشاركهم في قسمتها، وأيضاً يستدلون بقضية المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إني وهبت نفسي إليك.
فشخص بصره وصوبه فيها، ثم سكت، فجلست المرأة تنتظر، فقام رجل وفهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا توجد عنده تلك الرغبة ولا ذاك الحماس في هذه المرأة، فقام وقال: يا رسول الله! زوجنيها إن لم تكن لك فيها رغبة، قال: ما عندك من شيء تصدقها إياه؟ قال: ما عندي شيء.
قال: لابد أن تأخذ بالأسباب وتسعى، ذهب ورجع قال: ما وجدت شيئاً.
قال: (التمس ولو خاتماً من حديد) ، اذهب واقطع سلكاً واثنيه واجعله في إصبعك، فذهب ورجع فقال: ما وجدت شيئاً.
انظر إلى أي مدى وصلت الحالة، وهو يريد أن يتزوج! قال: هل معك شيء من القرآن؟ -هذه العملة الصعبة التي تمشي في كل مكان وزمان- قال: بلى.
لسور سماها، وقبل هذا لما سأله عن أي شيء يعطيها إياه، قال: أعطيها ردائي هذا.
قال: إن أعطيتها رداءك جلست ولا رداء لك، اذهب فالتمس، وأخيراً قال له: (زوجتكها على ما معك من كتاب الله) وفي الرواية الأخرى: (زوجتكها؛ فاذهب فعلمها ما عندك من كتاب الله) .
ويرد المانعون على قوله: (زوجتك على ما معك) ، بأنه يعني بهذا: أنه إكراماً لك لما معك من القرآن زوجتك، يعني: زوجتك إياها بدون صداق مكارمة لك وجائزة على ما تحفظ من القرآن، وهي ماذا يكون لها؟ وأما الرواية الأخرى: (فعلمها) ، فهي رواية صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم جعل صداقها تعليمها ما عنده من كتاب الله، فقالوا: هذا الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى التعليم صداقاً للمرأة، وتزوجها الرجل بما عنده من كتاب الله أن يعلمه إياها.
وفي بعض الروايات: (قم فعلمها ما معك من كتاب الله) .
فالمجيزون استدلوا بحديث الرقية بجامع الانتفاع، وبحديث المرأة بجعل التعليم صداقاً لها.
أما المانعون فعارضوا في حديث الرقية وقالوا: الجعل ليس على القراءة ولكن على العلاج، ومن هنا جازت الرقية بكتاب الله أو بأحاديث رسول الله، أو بالأدعية المأثورة، وهو ما يسمونه بالطب الروحاني، يعني: عن طريق الروح: يقرأ، يدعو، يرقي بكتاب أو سنة أو دعاء مأثور، وهذا مجمع عليه.
ومالك في الموطأ أطال في هذا الباب، وذكر عدة نماذج في هذا الموضوع.
واستدلوا أيضاً بما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم: (كنت أعلم رجلاً من أهل الصفة الكتاب والقرآن -الكتاب: يعني الكتابة، الإملاء والخط والحروف، والقرآن: أحفظه إياه- فأعطاني قوساً، فتقلدته وقلت: ليس مالاً أتموله، وإنما قوس أرمي به في سبيل الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته فقال: إن شئت أن ترمي به في النار فخذه) ، وهذا أقوى ما استدل به أبو حنيفة رحمه الله، والجمهور قالوا: هو قوس وليس مالاً، والرجل بحسن النية، قال: أرمي به في سبيل الله، ومع هذا القصد الحسن ما أباح له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذه، حتى قالوا: في الطعام، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له أن رجلاً كبر في سنه، قال: وكنت أتردد عليه وآكل عنده من الطعام ما لم أجده في أهل المدينة قاطبة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إن كانوا يصنعون الطعام لأنفسهم وتأكل معهم فلا بأس، أما إن كانوا يصنعونه من أجلك فلا) ؛ لأنهم كانوا يجعلونه أجراً له على تعليمهم، فقالوا: هذا منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والآخرون يردون على هذا أيضاً على رجل يقول: عن عمي: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان راجعاً -أي: إلى أهله- مر بقوم فيهم مجنون مربوط بالحديد، قالوا: سمعنا أن صاحبكم جاء بخير -يعنون النبي صلى الله عليه وسلم- فهل عندك من هذا الخير ما تعالج به هذا المجنون؟ قال: بلى.
قال: فقرأت عليه الفاتحة ثلاثة أيام، كل يوم مرتان، فقام من مرضه وانقلب معافى، فأعطوه مائتي شاة - لا عشرين كسيد الحي- يقول: فرجعت وسقتها معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته، قال: (خذها، لئن أكل الناس برقى الباطل؛ فقد أكلت برقيا حق) ، وهي رقيا الفاتحة.
نخلص من هذا كله: أنه انقضى الخلاف سابقاً، وكاد أن ينعقد الإجماع على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.