هناك عذاب وهو شيء واقع، وهنا فتنة، ويقول علماء اللغة: أصل الفتنة: إدخال الذهب في النار لتخليصه من الشوائب العالقة به؛ لأن الذهب لا تحرقه النار، وإنما تحرق ما علق به؛ ولهذا حينما يريدون معرفة عيار الذهب في المصاغ يأخذون جزءاً من المصاغ وليكن سنتي من مائة سنتي من الجراب، ويدخل هذا الجزء إلى نار حرارتها فوق المائتين لكي تذيب كل المعادن الموجودة مع الذهب، وقد يكون معه نحاس أو قصدير أو النحاس الأحمر وأشياء كثيرة، فتذوب ويبقى الذهب خالصاً بعد إدخاله في تلك الدرجة العالية من الحرارة؛ فيعيدون وزنه بعد ذلك.
وبقدر ما نقص بعد الوزن الأول وقبل الإحراق فيقولون: عيار كذا، فتكون السبيكة أو الجرم الذي أخذ منه العينة فيها من المعدن غير الذهب بقدر ما أحرقته النار وبقي الصافي، وعلى هذا قالوا: استعملت الفتنة ونقلت من الاسم المادي؛ على قواعد فقه اللغة، فأصل المادة اللغوية توضع للمحسوس أولاً، ثم تنتقل من المحسوس إلى المعقول المقارب لها، كما قالوا في الصلاة والصيام والزكاة: كل هذه وضعت للأمر اللغوي أولاً.
فالصلاة مأخوذة من الصلوين، أو من المصلي وهو الفرس الثاني، الأول مجلي والثاني مصلي؛ لأن عنقه عند صلوي الفرس، وهما مؤخر الفرس، وصلو الإنسان عند حقوه؛ لأنه يثني ظهره إلى حقوه في الركوع، ثم جاء أصلها الدعاء ونقلت إلى الصلاة.
وكذا الأُذن، أصل مادة الأذان والآذن والمأذون والإذن راجع إلى حاسة الأذن؛ لأن الخبر يلقى فيها، إلى غير ذلك من علم أصل الاشتقاق، فهنا الفتنة الأصل فيها لأمر محسوس وهو إحراق الذهب لمعرفة خالصه من شائبه، ثم انتقلت بعموم الاختبار، وأصبحت الفتنة الامتحان والاختبار، ولذا جاء في قوله سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[البروج:١٠] ، قيل: أحرقوهم؛ لأن أصل الفتنة الإحراق بالنار، وقيل: فتنوهم عن دينهم بهذا التعذيب، والعامل المشترك بين معاني الفتنة: الشدة والعجز عن التحمل.