[وجوب الاقتداء بالإمام في الصلاة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) رواه أبو داود وهذا لفظه، وأصله في الصحيحين] .
وقد وجدنا من المؤلف في هذا الموضع المغايرة في أسلوبه، فساق حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه -وهو جزء من حديث طويل- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، وذكر التفصيل في حالات الائتمام، إلى أن جاء إلى اقتداء الصحيح قائماً بالمريض قاعداً فقال في حديثه: (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) ] .
ثم ذكر حديثين بعيدين عن هذا الموضوع، وجاء إلى حديث عائشة، وهو جزءٌ من تفصيل هذه المسألة التي هي من كبريات المسائل، ألا وهي اقتداء المأموم الصحيح القادر على القيام بالإمام المريض الذي يصلي قاعداً، وكان من الأنسب أن يضم حديث عائشة رضي الله تعالى عنها إلى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
ولكن حيث رتب هذا الترتيب نمر على تلك الأحاديث على ما وضعها عليه، ونستعين الله تعالى في بيان ما هو الحق أو الراجح في هذه المسألة؛ لأنها أهم المسائل في هذين الحديثين.
الحديث الأول يقول فيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، وهذا الحديث جزءٌ من حديث طويل روته أيضاً عائشة وأنس وغيرهم، وهو: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط عن فرسه فجحشت ساقه أو كتفه -وفي بعض الروايات: فصلى خلفه قوم، وبعضها: في بيته فصلى جالساً، فصلوا بصلاته قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فجلسوا) .
ثم بين هذه التفصيلات التكبير أولاً، تكبيرة الإحرام ثم الركوع فالرفع فالسجود فالرفع فالسلام إلى آخره.
فبداية الحديث من حيث السبب: أنه صلى الله عليه وسلم سقط عن فرس فجُحِش، ونحن نقول: خُدش، والجحش هو: إذا احتك جسم الإنسان في أي موضع منه مع الحركة بجسم صلب، فإن الجلدة تتقشر ويبدأ بزاز الدم، وهو لم يُجرح، ولكن كشطت الجلدة العليا ويكون الدم الخارج منها خفيفاً، فجحش فخذه؛ لأن الذي يسقط عن متحرك وسريع ينسحب معه، ولا ينزل إلى الأرض ثابتاً كالحجر.
وهنا يتكلم ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد في الجزء السادس، وهو أحسن من تكلم على هذه الجزئية في هذا الحديث، يقول: في بداية هذا الحديث بيان جواز ركوب الخيل، ويقول رداً على كلام عمر ونهيه عن ركوب الخيل لأن فيها خيلاء، ولكن نقول مع ابن عبد البر: لا نزاع ولا خلاف بين نهي عمر، وبين ركوبه صلى الله عليه وسلم؛ لأن نهي عمر إنما يكون في حالات عادية كالنزهة، والتمشية، في المتعة، قد يكون ذلك إذا ركب الخيل وهي مطهمة أو غير ذلك.
كما جاء في بعض الأحاديث: (الخيل ثلاثة هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأما الذي هي له وزر: فرجل ربطها رياء، وفخراً، ونواءً على أهل الإسلام، فهي له وزر، وأما الذي هي له ستر: فرجل ربطها في سبيل الله، ثم لم ينس حق الله في ظهورها، ولا رقابها، فهي له ستر، وأما الذي هي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات) .
فيكون كلام عمر محمولاً على من يتبختر بالخيل، أو يتكبر بها، أو يتباهى، والرسول صلى الله عليه وسلم لا أعرف أنه ركب خيلاً في سفر عادي، إنما ركبها في القتال والجهاد فقط، وأما الأسفار فعنده البغلة الشهباء، وعنده الناقة القصواء.
وعمر بنفسه لما سافر في فتح بيت المقدس، وطلبوا منه أن يقدم عليهم رحل على بعير، ومعه رفيق في الطريق، كانا يتعاقبان البعير في الطريق إلى الشام، كل واحد منهما يركب مرحلة والثاني يقود البعير، فلما لقيه أمراء الأجناد قبل أن يصل إلى بيت المقدس قالوا: يا أمير المؤمنين إنك تقدم على أناس، وأنت على هذه الحالة قميص مرقع، وعلى بعير مرحل، هذا برذون تركبه، والبرذون ما بين الفرس والبغل، وله تبختر في المشي، وهذا قميص جديد تلبسه، فلما جيء بالقميص وكان من الكتان قال: ردوا علي قميصي واغسلوه فغسلوا القميص المرقع، وجيء به ولبسه، فلما قدموا إليه البرذون فإذا به يتبختر، فقال: ما كنت أظن أن أحداً يركب شيطاناً، ردوا إلي بعيري، وكان رحاله من الليف.
فدخل إلى بيت المقدس والدور لصاحبه، فكان يقود البعير وصاحبه راكب، فلما قدم على دهاقنتهم، وقساوستهم وأهل دينهم الذين عرفوا نعته عندهم قالوا: هذا الوصف الذي نجده عندنا في كتبنا، وسلموا إليه مفاتيح بيت المقدس.
وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه في سفره إلى الشام أيام الجاهلية قبل أن يسلم قال: فكنت أسير في السوق فإذا دهقان من دهاقينهم وجدني متخلفاً عن قومي، فأخذ بردائي ولببني في عنقي وأدخلني داره، وأتاني بمسحاة وقال: انقل هذا التراب إلى ذاك المكان.
فنظرت إلى نفسي وقلت: ويلك يا عمر! أهكذا يتحكم فيك هذا الرومي؟ قال: فأخذت المسحاة وضربته على رأسه، فقتلته، ودفنته في ذاك التراب وهربت.
قال: خرجت هارباً ولا أعرف الطريق؛ لأني تركت رفاقي قال: فمررت على دير فنزلت فيه وذلك في ظلام الليل، فلما أصبحت أطل عليَّ صاحب هذا الدير فقال: والله إنه هو إنه هو فما كنت أدري ماذا يقول؟ فنزل إليَّ وأخذ بيدي وأدخلني الدير، وأمنني وكساني وأطعمني، ثم قال: والله إنك هو قلت: من هو ويلك؟ قال: أنت الذي يملك هذا الدير، ويملك بيت المقدس.
قلت: لقد جننت أين أنا من هذا؟ قال: لا عليك فاكتب لي كتاباً بتأمين ديري هذا إذا آل الأمر إليك يقول عمر: عجبت فقلت: وماذا عليَّ لو كتبت له فكتبت له، ثم قلت: أريد من يدلني على الطريق، فقال: هذه حمار تركبها وعليها زادك توصلك إلى مكان، فإذا وصلت هناك، فانزل عنها واثن رأسها ووجهها إليَّ، فإنها تعرف الطريق وتعود.
يقول علماء التاريخ: لما آل الأمر إلى عمر جاءه ذاك الدهقان بكتابه، فقال: هذا كتاب بيني وبينك يا عمر قال: نعم، اليوم يوم وفاء، ولكن بشرط أن للمسلمين عليك إذا مروا بديرك أن تدلهم على الطريق، وأن تؤويهم للمبيت، وأن تزودهم بطعام يومهم وليلهم.
قال: لك عليَّ ذلك.
فعن هذا الحديث يقول ابن عبد البر: فيه جواز ركوب الخيل.
ثم يقول: لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أفره الناس ركوباً للخيل، وأشدهم حركة عليها، وهذه هي الفروسية، لا أن يركب على الفرس ويمكن نفسه في الركاب، ويمد اللجام في يده، ويمرح به الفرس، لا، بل الفروسية أن يتحرك على الفرس بطناً وظهراً كما يشاء؛ لأن الفارس قد يتقي الطعنة بانحرافه إلى تحت بطن الفرس، وقد حدثنا من شاهد ذلك في الصحراء بأن الفارس يربط قدميه على ظهر الفرس ويتدلى تحت بطنها ويرمي الرصاص من بين فخذي الفرس.
فيقول: ما سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرس إلا لشدة حركته عليه لا لمجرد ركوبه، وكان أشجع الناس، وكان أقدرهم على الحركة على الخيل، وأكرم الناس، وذكر صفاته صلى الله عليه وسلم.
واستدل لذلك بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في بعض الليالي أنه سُمعت صيحة، فاستعار صلى الله عليه وسلم فرساً لـ طلحة عرياً -أي: لا سرج عليه- وانطلق وسبق الناس جميعاً فطرد المهاجمين، ورجع ولقي الناس مقدمين وهو راجع، فقال: (يا أيها الناس! لن تراعوا) ، فسئل عن الفرس فقال: (إنه لبحر) ، أي: لا نهاية لجريه فهو سريع الجري.
وما كان يعرف البحر ولا النهر ولا الخليج في الخيل إلا أنه خيال متقن إذا ركب الفرس وأسرع به وتحرك عليه كحركة الفروسية، وإني استحيي أن أقول: إن ما يُعنى به الناس اليوم من سباق الخيل ليس على الغرض الذي أراده الإسلام؛ لأن سباق الخيل إنما هو سباق للفرسان وللفروسية، لا لأطفال يجرون عليها، ولا لخيول فارهة سريعة الجري، إن حقيقة الفروسية هي ما يأتي به الفارس من فروسية على ظهر جواده، وهذا أمر يعرفه الخيالة، وقد يفعل مثل ذلك على الإبل من يتعود ذلك.
إذاً: فالغرض من ركوب الخيل وجريها إنما هو فروسية الفارس الذي يركبها، وليست جودة الجواد في سرعة جريه.
فكان صلى الله عليه وسلم من خيار الناس فيما يتعلق بأمور الدنيا، وهو سيد الرسل صلوات الله وسلامه عليه فيما يتعلق بأمر الآخرة وأمر الرسالة.
قوله: (جُحِش) قال ابن عبد البر: فأصيبت قدمه ولم يستطع القيام عليها، فصلى قاعداً.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله، ويقول علماء الحديث: إن معرفة سبب الحديث يعين على فهمه، كمعرفة سبب النزول للآية.
هكذا هنا.
فحديث أبي هريرة في حادثة متقدمة، وفي بعض الروايات: (جاء أناس يعودونه) أي: في البيت، فأرادوا أن يصلوا، ولذا في بعض الروايات: (فصلى أقوام) وليس المعنى أنه صلى معه جميع الناس.
ويهمنا في هذا الحديث أنه صلى قاعداً، فقاموا يصلون بصلاته قياماً، فأومأ إليهم: أن اجلسوا ولما سلموا قال: (كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم بعظمائهم) ، أي يقومون على رءوس ملوكهم إعظاماً وخضوعاً بين يدي ملوكهم، أو تكبيراً أو تكريماً لهم بهذه الحالة.
فنهاهم عن ذلك.
ثم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، و (إنما) أداة حصر تحصر ارتباط المأموم بال