وجاءت في بريرة سنة ثالثة: حينما دخل صلى الله عليه وسلم وطلب الغداء، فأتوه بخل وزيت وملح، فقال:(ألم أرى البرمة على النار؟) ومن حق الرجل أن يستطلع ما في بيته، لماذا خصصتم أنفسكم بهذا!؟ ولا يجوز للمرأة أن تختص نفسها بطعام دون زوجها أو عيالها، لماذا احتفظتم بالبرمة لكم وناولتموني الخل والملح؟! اعتذروا، وقالوا: لا، يا رسول الله! إن البرمة لا تحل لك! لماذا؟ ما هو السبب؟ لأنها صدقة، (لحم تصدق به على بريرة، فقال: هو عليها صدقة، ولنا منها هدية) انظروا التحوير، التحوير المعنوي غيرّ الحكم، إننا بالأمس نقول: التحوير المادي، وهنا تحوير معنوي:(هو عليها صدقة، ولنا منها هدية) ، ما رأيك -يا بريرة - أتهدينا أو لا؟! فهل ستقول: لا؟! حكم عليها بأنه هدية، فستفرح بذلك بريرة لتهدي الرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً.
هنا قضية صغيرة كنت قد سمعتها من الشيخ الأمين، والشيء بالشيء يذكر، كان هو وبعض القضاة في سفر، ونزلوا على قوم، وقام الناس وذبحوا لهم، والوقت وقت الظهر، وكانوا جائعين، فالشيخ الأمين انتظر الطعام والشراب وما حضر، وكانت هناك جارية ومعها عصيدة، وضعت عليها السمن، وبجوارها اللبن، وتأكل، فقال لها: يا جارية! أليس عيب عليك أن تأكلي والضيوف ينظرون جائعين؟! قالت: ما بك يا شيخ؟! أما علمت أن الناس قد ذبحوا لك ذبيحة؟! فتركت الذبيحة، وتتطلع إلى ما في يد الجارية! قال: نعم، هذا حاضر ناجز، وذاك غائب، قالت: أتحب أن تأكل منه؟ قال: نعم، قال: فقامت -فرحانة تجري- وحمّت العصيدة، وزادت السمن، وأتت باللبن من أجل أني قلت لها: أريد أن آكل من طعامك، وفرحت جداً وأتت به، يقول: فأكلت حتى شبعت، فقالت: تريد شاي (أتاي) ، قلت لها: نعم، فذهبت وفعلت الأتاي، وشربت ونمت مبسوطاً، صاحبه يقول له: يا شيخ! أنت لم تسمع ما قالت لك الجارية؟! الناس ذبحوا لنا الذبيحة، وتركت الذبيحة! قال: انتظر إلى أن تأتي الذبيحة! وبعد العصر جاءت الذبيحة، فالشيخ أخذ يأكل من الذبيحة بهدوء.
يهمنا بأنه صلى الله عليه وسلم قال:(وهو لنا هدية من بريرة) ، ثقة برضاها وفرحها بأنها ستهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان هناك فرقاً بين القصتين، ولكن ذكرناها إيضاحاً للمعنى، وبالله تعالى التوفيق.
أقول: الواجب على طالب العلم المتفرغ -ولا يوجد شبه المتفرغ- أن يأخذ مثل هذا الحديث الذي يعتبر كنزاً وموسوعة ومجالاً فسيحاً جداً لإعمال الملكة الفقهية، وإعمال الذهن، في استخراج الأحكام، كما سمعنا عن ابن خزيمة أن هناك من استنبط منه أربعمائة مسألة، وكما سمعنا عن الشافعي في قوله صلى الله عليه وسلم:(يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) ، جملتان صغيرتان يستخرج منهما أربعين مسألة فقهية.
إذاً: طالب العلم لا يمر على الحديث مرور الكرام، فيقرأه كقراءة الصحف أو المجلات أو المواضيع العادية، ولكن يقف عند كل لفظة، وعند كل كلمة، وعند كل جملة، وعند كل تركيب؛ ليرى فيها أصول التشريع، وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.