ومع أننا لم نتعرض لأحد من الرواة ولكن معاذاً له شأن خاص به، وفي مقدمة هذا السياق: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ! إني أحبك، وأريد أن أوصيك، فقال معاذ رضي الله تعالى عنه: وأنا والله أحبك -يا رسول الله- فأوصني) ، فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ:(أحبك) ، تعطيه خصوصية، وقد أفرده النبي صلى الله عليه وسلم بصفة كما أفرد غيره، فقال صلوات الله وسلامه عليه:(أعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، ومعاذ كان يُعتبر بعثة تعليمية متنقلة، ولقد أقامه النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن يعلمهم الإسلام، وفي خلافة عمر رضي الله تعالى عنه كتب زيد من الشام إلى أمير المؤمنين عمر: إن أهل الشام في حاجة إلى من يعلمهم دين الإسلام، فأرسل إليه معاذ بن جبل.
وتجدون ذلك في الموطأ في باب المتحابين في الله، فيروي مالك عن شاب يقول: دخلت مسجد دمشق، فوجدت شاباً براق الثنايا يجتمع الناس عليه، ويصدرون عن رأيه، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا معاذ بن جبل، فبكرت من الغد إلى المسجد فوجدته قد سبقني إليه وهو قائم يصلي، فجلست حتى صلى فسلمت عليه وقلت: إني أحبك في الله، فجذب بردائي وقال: اجلس، آلله ما أحببتني إلا في الله؟ -يعني: والله ما أحببتني إلا في الله- قلت: آلله أحببتك في الله، قال: أبشر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بالجنة للمتحابين في الله) .
فـ معاذ رضي الله تعالى عنه أحبه رسول الله، ومع ذلك أدركته فاقة ولحقته ديون؛ فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يصيب من أجر العمالة ما يُسدد دينه.
يهمنا في هذا الحديث: قول الرسول صلى الله عليه وسلم له: (إني أحبك) ويكفي ذلك فضلاً لـ معاذ أن الرسول يحبه، وكما جاء في مثل هذا المعنى في غزوة خيبر لما استعصى حصن مرحب، ورجعوا متأثرين، فقال صلى الله عليه وسلم:(لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يقول عمر: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، ويقول عمر وهو محل الشاهد: والله! ما تطلعت نفسي لرئاسة ولا لإمارة إلا تلك الليلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ويحبه الله ورسوله) ؛ لأن هذا ليس بالأمر الهين، ومع هذه المحبة يقول له:(أريد أن أوصيك) ، فهو أعلن من جانبه أيضاً:(وأنا والله يا رسول الله أحبك) ، وكون معاذ يحب رسول الله هذا أمر واجب، (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين){قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا}[التوبة:٢٤] ، ولا ينبغي أبداً أن يقدم محبة مخلوق عرضاً كان أو أصلاً، إنساناً أو مالاً؛ على محبة رسول الله؛ لأن محبة رسول الله هي معيار الإيمان.