يقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العمرى لمن وهبت له) متفق عليه، ولـ مسلم:(أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً ولعقبه) وفي لفظ: (إنما العمرى التي أجازها النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها) ولـ أبي داود والنسائي: (لا ترقبوا ولا تعمروا فمن أرقد شيئاً أو أعمر شيئاً فهو لورثته) ] .
بعدما أتى المؤلف بإجمال مواضيع الهبة والعطية والنحلة على ما تقدم في تفصيلها، وحكم الرجوع فيها، والتسوية بين الأبناء، جاء بأحكام العمرى، وقبل أن نخرج إلى العمرى، تذكرون أن سائلاً بالأمس سأل: هل يجب على الوالد أن يساوي بين أولاده بالنفقة أم لا؟ موضوع المساواة بين الأبناء إنما هو في العطاء، (أكل ولدك نحلته مثل هذا؟) أعطيتهم مثل هذا، أما النفقة فليست عطاء.
النفقة أداء واجب، وأداء الواجب يكون بقدر ما يؤدى به هذا الواجب، إذا كان عنده ولد طالب في الجامعة، وعنده ولد طالب في الابتدائي، هذا الطالب الذي في الابتدائي هل يحتاج من النفقة والمصاريف ولوازم الدراسة بقدر ما يحتاج طالب الجامعة؟ لا يحتاج.
فهل نقول: نعطي الصغير بقدر ما نعطي الكبير لأجل المساواة؟ لا، فالمساواة هنا إيفاء كل ذي حق حقه، فلا يقصر مع الطالب الجامعي لكثرة نفقته، ولا يغدق على الطالب الابتدائي لقلة مئونته، بل يعطيه، اليوم بدأت الدراسة، يريد حقيبة، يريد دفاتر، يريد كتباً، يريد مسطرة، هذه الأشياء يحضرها له، لكن طالب الجامعة يريد مواصلات، وربما احتاج إلى سكنى، وإلى ملابس فطلباته أكثر وأوفر، وكذلك البنات: البنت الصغيرة في سنة أولى والبنت الكبيرة في الجامعة، فكل من الأولاد له حق، وحقه إعطاؤه ما يفي مطالبه، فلا يقصر مع الكبير ولا يسرف مع الصغير؛ لأن الصغير في طريقه إلى ما وصل إليه الكبير، وسيأخذ كما أخذ الكبير.
بقي هنا مسألة وإن لم يأت السؤال فيها فهي تفرض نفسها، فيما إذا كان للوالد خمسة أولاد: ثلاثة ذكور وبنتان، فزوج من الأولاد ولدين وبقي ولد، وزوج من البنات بنتاً وبقيت بنت، اللذان زوجهما أبوهما بقي الثالث، هل من حقه أن يفرد هذا الولد الثالث بشيء يساعده على الزواج كما زوج الولدين؟ وهل يعطي البنت التي لم تتزوج ما يساعدها في زواجها كما زوج الأولى؟ تقدمت القاعدة العامة: هل يجوز للوالد أن يفاضل بين أولاده لوصف قائم؟ جاءت النصوص عند الحنابلة أيضاً بأن الوالد له أن يفاضل بين أولاده خاصة لوصف قائم بأحدهم، وأشرنا إلى ذلك سابقاً بأن كان ذا عائلة أو كان مريضاً زمناً لا يقوى على العمل بأن كان متفرغاً لطلب العلم، فللوالد أن يميزه عن بعض إخوانه في العطاء، إذا أعطى إخوانه عشرة يعطي واحداً من هؤلاء عشريناً.
ثم هناك من يقول: التسوية في الحالة العادية، لو أعطى الولد عطاءً زائداً ثم أراد أن يسوي بين الآخرين، على أي قياس؟ فبعضهم يقول: على قياس قسمة التركة: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}[النساء:١١] ، والبعض يقول: لا، هذا كميراث حق الله، وهذا عطاء من الوالد، فالبنت والولد في ذلك سواء، وجاء حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا وسووا، ولو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء على الرجال) والآخرون يضعفون هذا الأثر ويقولون: الولد أحق بالمفاضلة من البنت؛ لأن الولد سيلحقه غرم في الزواج فسيدفع صداقاً للزوجة، وسينفق عليها وعلى أولاده منها، أما أخته -أي: البنت- فلا تطالب بشيء من ذلك، تأخذ حصتها من الميراث وتتزوج وتأخذ صداقاً، وتجد من ينفق عليها، ولا تكلف بشيء من ذلك.
إذاً: قسمة الميراث راعت حق الولد أو الذكر لما يتبعه من تبعات في الحياة.
إذاً: لو كان أحد الأولاد به صفة يحتاج بها إلى مفاضلة فإنه لا مانع في ذلك، وإن كانت الرواية الأخرى في الكشاف عند الحنابلة: مهما كان وصفه لا يفاضل به، ولكن الحاجة تعطى، حتى ذكر لو أنه زوج ابنته فجهزها فأعطاها عليه أن يعطي أولاده مثلما أعطاها، وهذا ذاهب للعروس ليس لنا دخل فيه، ولكن يعطيها لكونها انتقلت من بيته إلى بيت آخر، لكونها تبتعد عنه، فلابد أن يسوي بهذا العطاء بقية إخوانها، وبالله تعالى التوفيق.