[نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح والخلاف في سببه]
ولما انتهى صلى الله عليه وسلم من أعمال منى نزل بالأبطح، وكان يسمى (خيف بني كنانة) وهو موجود الآن في أوائل مكة في ما يسمى قصر السقاف، موضع الرابطة سابقاً، وهنا يبحث العلماء في سبب هذا النزول، فبعضهم يقول: نزل فيه نزولاً تابعاً للنسك، وبعضهم يقول: إنما نزل فيه لأنه واسع وهو في بادئ مكة، فيكون أيسر له ولمن معه إذا أرادوا السفر إلى المدينة؛ لأن السفر من هناك أيسر عليهم من أن يدخلوا مكة وبيوتها وأزقتها ثم يخرجون، فهذا فيه مشقة عليهم، إذاً: مبيته في هذا المكان الذي هو خيف بني كنانة اختلف فيه هل هو تابع للنسك أو هو من أجل المصلحة؟ وابن كثير رحمه الله يذكر لذلك سبباً آخر وهو: أن خيف بني كنانة هذا في أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان له تاريخ، لما تآمرت قريش على بني هاشم، أن لا يبايعوهم ولا يزاوجوهم، ولا يعاشروهم، حتى اضطروا إلى أن ينحازوا إلى الشعب، واشتد الأمر عليهم، حتى أكلوا ورق الشجر، وكتبوا في ذلك صحيفة، وعلقوها داخل الكعبة، وكانت هذه الصحيفة تسمى: الصحيفة الظالمة، وقد كتبوها في هذا الخيف.
وبعد أن كتبت بمدة جاء جبريل عليه السلام وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله قد سلط الأرضة على الصحيفة فأكلتها، ولم يبق منها إلا: لفظ الجلالة فقط، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب، وقال: إن الصحيفة التي كتبوها وعلقوها بالكعبة سلط الله عليها الأرضة فأكلتها، ولم يبق منها إلا لفظ الجلالة، فذهب أبو طالب إلى سادات قريش، وقال: يقول ابن أخي: إن صحيفتكم الظالمة قد سلط الله عليها الأرضة فأكلتها، ولم يبق منها إلا لفظ الجلالة فهلموا انظروا إليها، إن كان صادقاً فلا حاجة إلى هذه القطيعة، والغوا هذه الصحيفة، وإن كان كاذباً فشأنكم به.
ففتحوا الكعبة، ونظروا الصحيفة، فوجدوها كما أخبر صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك استمروا في العناد، فقام أربعة نفر من قريش وقالوا: والله! إن هذا ظلم، أفنقاطعه بعد أن تبين لنا صدقه؟! فتآمروا أنهم إذا جاء الليل يكون كل إنسان من الأربعة في ركن من أركان المسجد، فيقوم الأول ويقول: إن تلك الصحيفة الظالمة لم نحضرها ولم نرض بها ولا نقرها، فيتكلم أبو جهل فيقوم الثاني ويؤيد هذا القول، وهكذا الثالث والرابع، وحينئذٍ ستجد قريش نفسها أمام الأمر الواقع، ففعلوا ما تآمروا عليه حتى قال أبو جهل: إن هذا أمر بيت بليل، يعني: ما جاء صدفة الآن وإنما أنتم متفقون عليه بليل، فيقولون: إن تلك الصحيفة الظالمة كتبت في خيف بني كنانة، حيث اجتمع كفار قريش هناك في ذلك الخيف وكتبوها وجاءوا بها وعلقوها داخل الكعبة، فيقول ابن كثير: كما أن هذا الخيف شهد كتابة الصحيفة الظالمة فليشهد نزول النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه عقب هذا النسك العظيم، فكما شهد الظلم يشهد العدل ويشهد ذكر الله من هذا الرهط الكريم، والله تعالى أعلم.