[ائتمام كل صف بالذي قبله واتخاذ المبلغين]
بقي هنا قوله: (فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم) .
فقبل وجود هذه الأجهزة التي تقوم بنقل الصوت وإبلاغه كان صوت الإنسان محدوداً، فمن كان في الصفوف المتأخرة عن الإمام لا يرى الإمام ولا يسمع صوته، ولكنه يرى الصف الذي أمامه، وكذلك كل صف -وإن تأخر- يرى أمامه الصف الذي أمامه، فكل صف يقتدي بالصف الذي أمامه في الحركة، في الركوع والرفع، والسجود والجلوس.
وفي كون المتأخرين يقتدون بالذين أمامهم يقول الشارح: لو أن متأخراً مسبوقاً جاء ووجد الصف الذي يليه راكعاً فأدرك الركوع معه فإنه يكون قد أدرك الركعة، ولو أن الإمام قد رفع رأسه؛ لأن حكمه أن يقتدي بالذي يليه، وهو لا يدري عن الإمام رفع أم لم يرفع.
ويدل لهذا قصة أبي بكرة حينما جاء مسبوقاً، ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم راكعاً والناس ركوعاً، فكبر للصلاة قبل أن يصل إلى الصف ليدرك تكبيرة الإحرام، وركع حيثما كبر، ودب راكعاً حتى وقف في الصف، فقال له صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعُد) وروي (تعِد) و (تعْدُ) ، وكل هذه الألفاظ جاءت وهي في الكتابة سواء.
فـ (لا تعُدْ) من العود، والفعل الأجوف معتل العين إذا سكنت لامه سقطت عينه.
و (لا تعِد) من أعاد يعيد.
و (لا تعْدُ) ، واوي اللام من العَدْو، وواوي اللام أو معتل اللام إذا جُزم تكون علامة الجزم حذف حرف العلة، أو حذف لام فعله.
ويهمنا في هذا اقتداء الصف المتأخر بالصف الذي أمامه.
وهنا نرجع إلى موقف أبي بكر رضي الله تعالى عنه بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، حيث كان يُسمِع الناس تكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم مريض، ويكبر للركوع، ويسمِّع، ويحمَد في الرفع، ويكبر للسجود وغيره، والناس وراءه صفوف، لم يُسمعهم ولم يروه، فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يُسمع من وراءه من المصلين التكبير في الانتقال، ومن هنا أخذوا أن للإمام إذا كان عاجزاً عن إبلاغ الناس بصوته أن يتخذ مبلِّغاً.
ولذا قال مالك في الرواية الأخرى عنه فيما لو صلى الإمام الأعظم أو الراتب قاعداً، وصلى المأمومون خلفه قياماً، يقول: أحب إلي أن يقوم بجانبه واحد منهم يبلغهم تكبيراته، أي: يطبق الصورة التي جاءت في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واتخاذ المبلِّغ في الصلاة له أصل من السنة، ولا نقول: إنه بدعة.
ولا نقول: إنه خلاف الواقع، فإذا دعت الحاجة إليه فلا مانع، أما أن يكون إمام يصلي ومعه عشرة مأمومين، أو خمسون، أو صف واحد، أو صفان فيتخذ مبلغاً يبلغهم صوته فلا حاجة لذلك، أما إذا كانو صفوفاً متعددة فهناك يحتاج الأمر إلى من يبلغ، ثم إن التبليغ ليس خاصاً بالصلاة، بل كان العلماء رحمهم الله تعالى في بادئ الأمر يتخذون مبلغين عنهم، يبلغون من في الحلقة ما يروون من الأحاديث.
وقيل لـ مالك رحمه الله لما اتسعت حلقة درسه في المسجد النبوي: اتخذ مبلغين يبلغون عنك.
قال: لا، أخشى أن أكون ممن يرفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتخذ مبلغين.
فالتبليغ تدعو إليه الحاجة، وقد وجدنا نظير ذلك، ألا وهو تعداد الأذان في المسجد الواحد، فإذا كبرت القرية وكان المؤذن الواحد لا يُسمعها فيجوز أن يتعدد المؤذنون، فيقفون كلٌ يؤذن إلى جهة من الجهات، ويكون عددهم بقدر الحاجة اثنان أو ثلاثة أو أربعة، وهل يؤذنون متتالين واحداً بعد الآخر، أو مجتمعين في مكان واحد وفي وقت واحد؟ جاء عن أحمد وعن مالك جواز في اجتماعهم في وقت واحد ما لم يكن هناك تشويش.
وقد يقول قائل: الآن أصبحت الأجهزة والمكبرات تبلغ أكثر من المبلغ، فما حاجتنا إلى مبلغين الآن؟ والجواب: يمكن أن يقال: هذا وجه له نظر، ولكن هناك أيضاً احتمال آخر، فالأصل المشروعية، سواءٌ أجاء هذا الجهاز يبلغ عن المبلِّغ، أم يبلغ عن الإمام؛ لأن هذا جهاز يعمل بطاقة وآلة فهو معرض للتوقف والتلف، وفي بعض الحالات تتعطل الكهرباء في الضوء وفي الصوت، وكم يحصل من اضطراب واختلال.
فمادام أن الأصل المشروعية، وجاء هذا الجهاز لزيادة بيان وزيادة خير فلا مانع، ولا نجعل مثل ذلك موضع تشكيك، أو موضع تبديع للناس.
وقوله: (تقدموا فائتموا بي) هذا خاص بالرجال، أما النسوة فلا تقدم لهن، وقد جاء ما يخصهن: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها) ، ولا يوجد شر في الصلاة، ولكن هذا شر نسبي، أي: بالنسبة لفضيلة الصف الأول، فإن الصف الأخير لم يحصل على فضيلة الصف الأول.
قال: (وشر صفوف النساء أولها) ؛ لأنها تلي الرجال، والمرأة كلما بعدت عن الرجال كان أصون لها، وسيأتي التنبيه على صلاة المرأة في المسجد في الحديث الذي يأتي بعد ذلك إن شاء الله.