وأما قول من يقول: إن الاعتكاف لا حد لأقله، ففي هذه المسألة خلاف: فهناك من يقول: لا اعتكاف أقل من عشرة أيام، وهذا القول مروي عن مالك رحمه الله.
وهناك من يقول: لا اعتكاف أقل من يوم وليلة، وهذا القول منقول عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وهو رواية عن أحمد.
وهناك من يقول: لا حد لأقله فيصح ولو نصف ساعة ولو ربع ساعة وهذا قول الشافعي رحمه الله، وإن كان الأفضل عنده: ألا يقل عن يوم وليلة.
وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: كنت أدخل المسجد لا لصلاة ولا لشيء ولا لأجلس وإنما للاعتكاف، يعني: أنه كالمار، وقالوا: إن ذلك يشبه الوقوف بعرفة؛ لأن الوقوف بعرفة مكث في مكان معين، ويجزئ الحاج أن يقف بعرفة ولو ساعة، حتى بالغ البعض وقال: ولو مروراً بها من شرقها إلى غربها، وهو يعلم أنها عرفة، والبعض قال: ولو لم يعلم.
فقالوا: إن الوقوف بعرفة هو عبارة عن مكث في مكان معين في زمن محدود، فقالوا: وكذلك الاعتكاف هو عبارة عن مكث في مكان معين لعبادة فلا يتقيد بزمن كما أن الوقوف بعرفة لا يتقيد بزمن، مع أنهم يقولون في عرفة: من أمكنه الجمع بين ليل ونهار فترك ذلك فعليه دم مع صحة حجه؛ لأنه ترك واجباً، ولو أن مريضاً بالمستشفى كان محرماً بالحج فأخذوه في سيارة ووصلوا به إلى عرفات ثم ردوه إلى المستشفى في وقته فإنه يكون قد أدرك الحج وأدرك الوقوف بعرفة.
إذاً: مدة الاعتكاف يختلفون في أقلها ولا يختلفون في أكثرها، فله أن يعتكف شهراً أو شهرين أو أكثر، وسيأتي عند بحث الصوم أن الذين قالوا: لا حد لأقله، يستدلون بقصة عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال:(كنت نذرت اعتكاف ليلة عند الكعبة في الجاهلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: أوفِ بنذرك) ، قيل: كان هذا السؤال في الجعرانة عند رجوعهم من الطائف.
فكونه يعتكف ليلة والليلة ليست يوماً كاملاً، وذكر ابن حجر في فتح الباري أن هناك من يروي (يوماً) فيقول: عمر كان نذر يوماً، ومن روى (ليلة) فأراد مع نهارها، ومن روى (يوماً) أراد النهار مع الليل، ولكن رواية:(نذرت أن أعتكف يوماً) يقول: إنها شاذة، والمحفوظ:(نذرت اعتكاف ليلة) ، فقال الشافعي رحمه الله: الليلة ليست يوماً كاملاً، والليل ليس موضع صيام فليس الصوم شرطاً في الاعتكاف.
إذاً: نحن في مبحث متى يدخل المعتكف معتكفه؟ فإن كان زمن اعتكافه يوماً فأكثر فعلى ما تقدم، فرأي الأئمة الأربعة رحمهم الله: أنه يدخل معتكفه قبل غروب شمس اليوم الذي قبله، والحديث محمول على أن المراد بمعتكفه المكان الذي كان صلى الله عليه وسلم يخصصه لجلوسه ونومه واعتكافه.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.