يلاحظ في هذا دقة العلماء وأن فن التأليف ليس مجرد جمع نصوص! ففي هذا الحديث كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي، وبعده مباشرة يأتي المؤلف بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى، فقد نعى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم موت النجاشي، فكيف ينهى عن النعي، وكيف نعى؟! وهذا كما أشرنا سابقاً فيما يظهر ذلك بدقة أكثر في الموطأ وصنيع الإمام مالك في الموطأ في إيراد الأبواب يفسر بعضها بعضها، فهنا اتفق الجميع.
ما هو النعي؟ قالوا النعي: خاص بالإخبار عن الميت، مات فلان، ثم يقول ابن عبد البر: النعي على ثلاثة أقسام: نعيٌ لمجرد إخبار أهل وأصدقاء الميت من أجل القيام بواجبه من تجهيزه والصلاة عليه والدعاء له ودفنه، فهذا لا بأس به.
ونعي للمكاثرة والمفاخرة وأن يذهب أشخاص إلى الأسواق أو إلى غير ذلك، ويعلنون موت فلان، فهذا للمكاثرة والشهرة والكثرة، وهو لا يجوز.
ونعي كنعي الجاهلية: يا سندنا يا سيدنا يا صفوتنا يا كذا، ويصفونه بصفات أكثرها زور وبهتان، فهذا من النعي المحرم الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: النعي إخبارٌ بموت الميت، هذا الإخبار إن كان لمجرد الإعلام بموته عند ذويه وأقاربه وأصدقائه، ومحبيه ليشاركوا في مصالحه: من تجهيز ودفن وصلاةٍ عليه، ودعاء له، فهذه سنة، وما عدا ذلك فهو داخل في النهي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مع نهيه عن النعي، نعى النجاشي لأصحابه.
إذاً بهذين النصين واقترانهما نجد أن هناك نعياً منهياً عنه، ونجد هناك نعياً واقعاً بالفعل منه صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يجتمع النهي والفعل، كما أن السلب والإيجاب لا يجتمعان؛ لأنهما نقيضان لا يجتمعان.
إذاً النعي المنهي عنه: ما كان فيه من صفات الجاهلية.
والنعي المثبت المشروع هنا: ما كان من حق الميت وفي مصلحته، ثم إن العلماء ذكروا ناحية أخرى وهي أن الميت إذا نعي نعياً كنعي الجاهلية، فإذا وضع في القبر أتاه الملكان يعذبانه ويقولان: أأنت كذا؟ ويضربانه، فيقول: أنا ما قلت، كما جاء عن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه: (أنه مرض فأغشي عليه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وعاده وقال: اللهم إن كنت جعلت له بقية في العمر فعافه، وإن كنت كتبت له كذا فسهل عليه، فتعافى وصح وقال: يا رسول الله! أمي كانت تقول كذا أو أختي كانت تقول كذا، فكنت أعذب على ذلك.
من هنا قالوا: من نعي نعياً كنعي الجاهلية، فإنه يعذب بهذا النعي، فقيل: وما ذنبه وإنما كان النعي من الآخرين، فأجابه: أنه إذا كان يعلم من طبيعة أهله أنهم يفعلون ذلك، فوجب عليه أن يحذرهم، وأن يمنعهم في حياته كما جاء عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا مت فلا تنعوني أي كنعي الجاهلية، فإذا كان يعلم من حالهم أنهم يفعلون شيئاً من ذلك، وأوصاهم أن لا يفعلوا وقال: أنا لا أقبل ذلك، برئت ذمته، ومن فعل أقاربه شيئاً من ذلك بعد هذا فعلى أنفسهم، ويكون هو قد خرج من العهدة.