أما تاريخ المسجد فهو تاريخ عريق، وكل من كتب عن المساجد فإنه يبدأ بمساجد بلده، فأهل القاهرة يذكرون مساجد: عمرو بن العاص، وأحمد بن طولون، الشافعي، والليث وغيرهم، وأهل المغرب يذكرون جامع قرطبة، وجامع الزيتونة وغيرها وهكذا، ولكن المنصفين منهم إنما يكتبون عن المساجد الثلاثة أولاً، كما فعل الزركشي في كتابه (إعلام الساجد بأحكام المساجد) ، فذكر المشهور منها، وأفرد المساجد الثلاثة بأبوب مستقلة، أي: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي الشريف.
والمتأمل في تاريخ المساجد -كما أشرت- يجد أن المسجد هو أول حركة عمرانية على وجه الأرض، وبعض الناس يقول: أول مسجد.
ونقول: أول عمران؛ لقوله سبحانه:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ}[آل عمران:٩٦] ، وهو البيت الحرام كما نعلم، وأما الذي وضعه فقيل: الملائكة وضعته لآدم، وقيل غير ذلك، والذي بأيدينا من كتاب الله هو التاريخ الإبراهيمي -إن صحت هذه التسمية-، كما بين سبحانه بقوله:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}[البقرة:١٢٧] ، فإبراهيم وإسماعيل رفعا قواعد البيت، فهي موجودة قبل أن يرفعاها، ومهمتهما تجديد البناء ورفعه، كما جاء في قوله تعالى:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}[إبراهيم:٣٧] ، فكان وادياً غير ذي زرع، وغير ذي ماء، وليس فيه ساكن، ولم يكن البيت موجوداً في ذلك الوقت، ولكنه كان أكمة، ثم تولى الله سبحانه وتعالى تعيين مكانه لإبراهيم، كما قال تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}[الحج:٢٦] .
وكذلك في الإسلام كان المسجد هو أول ما يكون في المدن، وإذا أريد إنشاء مدينة جديدة كان المسجد هو قصبتها، وهو نقطة مركزها، كما هو الحال في المسجد النبوي الشريف، وفي غيره في التاريخ الإسلامي.
وامتازت المساجد الثلاثة بأن الله سبحانه هو الذي اختار أماكنها، وكذلك بالذين قاموا ببنائها ابتداءً؛ فإنهم رسل الله، ومن أجل ذلك كانت الصلاة فيها مضاعفة، ما بين خمسمائة وألف ومائة ألف، باختلاف المساجد الثلاثة.