شرح حديث السائب (أنه كان شريك النبي قبل البعثة ... )
قال رحمه الله: [وعن السائب المخزومي رضي الله عنه: (أنه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فجاء يوم الفتح فقال: مرحباً بأخي وشريكي) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة] .
السائب كان شريكاً للرسول قبل البعثة، وجاءه في عام الفتح فقال: (مرحباً بشريكي، ما كنت تماريني ولا تداريني) .
نشرح هذا الحديث على الهدوء وعلى الراحة، وننظر إليه بمناظير بعيدة: (مرحباً بأخي وشريكي) كان شريكه في الجاهلية، فأول فائدة من هذا الحديث أن الرسول اشتغل بالتجارة، وقد اشتغل أيضاً برعي الغنم.
يقولون: النماء الاجتماعي يكون إما بالصناعة أو بالزراعة، فما جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم إنه اشتغل بالزراعة، فمكة أرض غير زراعية؛ ولهذا لما جاء المدينة، ورآهم يوءبرون النخل، أشار عليهم أنهم لو تركوه فلعله يثمر فتركوه فصار كله شيص! ً، فهو ما جرب زراعة، وهذه أمور دنيوية؛ ولذا قال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم مني) .
ورعي الغنم نوع من التنمية، وفيها حكمة، فالغنم حية، وهل كلها تمشي على وتيرة واحدة مثل جهاز ميكانيكي؟ لا، بل واحدة تمشي يمين وواحدة يسار وواحدة تفر واثنتان تتناطحان، فهي أمة، ومن أحسن وأتقن سياسة الغنم فيمكن أن يحسن سياسة بني آدم، فرعي الغنم تدريب له، ويعود على الرفق والحرص على المصلحة، فإنه يبحث لها عن المرعى الخصب، ويحرص على مواعيد سقيها، ويهشها بعصا صغيرة جداً، ثم إذا ولدت وأنتجت الغنم أخذ ولدها بين يديه، وهذا بخلاف رعاة الإبل فما يسوقها إلا بعصا كبيرة، وترى الجمل رافع رأسه فوق، ولازم يرفع رأسه إلى أعلى؛ ولهذا فأهل الإبل هم أهل الكبر والخيلاء، وأهل الغنم هم أهل الوديعة والسكينة، فراعي الغنم يعلم بسياسة الإدارة للأمة، ويحرص على الجماعة، ويكتسب الرفق والرحمة، ويسعى لمصلحة الضعيف، وكل ذلك كان عند رسول الله، فهو مكتمل الأخلاف عليه الصلاة والسلام.
وأهم شيء في التجارةصدق الكلمة، والوفاء بالعهد، والأمانة، وكل ذلك ظهر منه صلى الله عليه وسلم، ولما سافر في تجارة لـ خديجة مع ميسرة، أكرمه الله بالربح الوفير، فكان ماهراً في التجارة.
وأقول: ينبغي لطالب العلم أن يكون ذا مهنة، وأن يكون ذا اتجاه منتج، إن كان عنده رأس مال فبتجارة، وإن لم يكن فبرعي غنم، وإن لم يتأت له الذهاب إلى البوادي، وصعب عليه ذلك، وبقي في المدن فينبغي أن يكون عنده صنعة، ويكون عنده طريق للرزق، ونعلم أن كثيراً من العلماء كان يتعاطى التكسب، فـ أبو حنيفة كان يتعاطى التجارة، وغيره أيضاً، وعندما يكون عند طالب العلم جانب إنتاج واستثمار؛ فإنه يكون عوناً له على القيام بنفسه، وليس بلازم أن يكون من كبار التجار، ولكن بقدر ما يكفيه، وما يسد حاجته، ونحن نعلم أن كثيراً من طلبة العلم الكبار كان يبيت طاوياً ما عنده شيء، ولكن كانوا أصحاب عفة.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم عمل في التجارة قبل البعثة، وهي من عادة قومه، وجاراهم في ذلك، وكما يقولون: البركة مائة جزء، تسعة وتسعون منها في التجارة، وواحد في بقية الأعمال.
ويهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كان كفرد من أفراد المجتمع في أمور حياتهم، وإن كان متميزاً بذاته وصفاته؛ لأنهم لما اختلفوا في وضع الحجر الأسود، وكادوا يقتتلون، اتفقوا على أول من يخرج عليهم، فكان الخارج عليهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بخمس سنوات، فكلهم قال بلسان واحد: الأمين ارتضيناه، الأمين ارتضيناه، فكان متميزاً بالأمانة والإصلاح ومكارم الأخلاق.
زيد بن حارثة خطف من قومه، وبيع في مكة، ووصل إلى خديجة رضي الله تعالى عنها، فوهبته لرسول الله ليخدمه، وكان أبوه يبحث عنه في القبائل، حتى قيل له: إنه في مكة عند بني هاشم، فقدم مكة ووصل إلى الرسول قبل البعثة، وقال له: إن ابني عندك، وقد جئتك بالفداء، وجاء عمه مع أبيه، وقال: ما أحببت من الفداء نعطيك، فقال: (أوغير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أخيره بيني وبينك، فإن اختارني فما أنا بمفادي من يختارني، وإن اختارك فهو لك بدون فداء، قال: والله! أنصفتني، فدعاه، فقال: نعم، هذا أبي وهذا عمي، قال: اسمع منهما، فسمع منهما، فقال: والله -يا محمد- لا أختار عليك أحداً أبداً! فأبوه قال: ويحك يا زيد! أتختار العبودية والرق على الحرية؟! وتختار الغريب الأجنبي على أبيك وعمك؟ قال: نعم، والله! مدة ما صحبته ما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟) يعني: وجد عند رسول الله ما لم يجده عند أبيه، فالرسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكذلك كان قبل الرسالة أولى وأرأف بالشخص من أبويه، صلوات الله وسلامه عليه.
والشاهد من هذا الحديث: (مرحباً بأخي وشريكي) كلمة: (شريكي) ، إذاً: الشراكة أو الشركة كانت معاملة موجودة عند العرب قبل أن يأتي الإسلام، وجاء الإسلام وأقرها، والإسلام جاء فوجد أموراً عديدة، منها ما ألغاها كالربا ومهر البغي.
إلى أخره، ومنها ما أقره، وأنواع من الأنكحة ألغاها وأنواع من الأنكحة أقرها، فالإسلام أصلح أوضاع المجتمع.
إذاً: هذا الحديث ساقه المؤلف تحت باب (الشركة) ليبين أن الشركة كانت موجودة قبل الإسلام، وجاء الإسلام وأقرها، ويجمعون على أنها من العقود الجائزة، والله أعلم.