[شرح حديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي)]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله، وبعد: [وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، رواه البخاري] .
كأن المؤلف رحمه الله اكتفى بما أورده من النصوص بما يتعلق بالأذكار عقب الصلاة، وهذا الباب باب واسع، والأولى لكل مسلم فضلاً عن طالب علم أن يعنى بهذا الباب، وهو الأذكار والأدعية؛ لأنها غذاء القلوب، وهي تكسي الروح برداء يستطيع به أن يكون دائماً على صلة مع المولى سبحانه وتعالى، وإذا تأمل الإنسان في الأدعية والأذكار يجدها تخاطب الأرواح دون الأشباح، ولهذا عني بعض العلماء بجمع ما يتعلق بالأذكار في مؤلفات أذكار اليوم والليلة، والصباح، والمساء، والأسفار، واللباس، والطعام، والنوم، والاستيقاظ، ولبس الثياب، وخلعها كل حركة تجد فيها دعاء أو ذكراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك ليكون الإنسان دائماً في كل شئونه مرتبطاً بالله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي} [الأنعام:١٦٢] ، كل حركة في حياته صلى الله عليه وسلم فيها ذكر لله، إن شربت الماء سميت الله، إن رفعت الكأس حمدت الله، إن اضطجعت في فراشك ذكرت الله، إن نهضت أثناء نومك بالليل ذكرت الله.
وضعت قدمك في نعلك أو خلعتها لبست ثوباً جديداً حتى دخول الخلاء تستعذ بالله، وتكف عن ذكر الله في الخلاء؛ فكل حركة للإنسان في هذه الحياة يجد لها ذكراً وارداً، والأولى أن يتقيد بذلك بقدر المستطاع.
وبعد أن أنهى المؤلف ما اختاره من تلك النصوص جاء إلى حديث جامع شامل يعتبر أصلاً من أصول الدين وقاعدة ترجع إليها أعمال الصلوات كلها، وهو التعليم العملي، قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:٢١] ، وكما قال في الحج: (خذوا عني مناسككم) .
إذاً: التطبيق العملي منه صلى الله عليه وسلم هو أعلى وسيلة في التعليم، وأعتقد أن علماء التربية يتفقون على ذلك؛ ونحن نشاهد الطفل الصغير وهو لا يعرف أن يتكلم وهو يحبي ينظر أمه قامت للصلاة فيأتي أمامها ويصلي مثلما تصلي، هو لا يعرف أنها صلاة ولا قبلة ولا أي شيء، ولكن يأخذها تلقائياً وتلقيناً.
وأصل هذا الحديث كما جاء في بعض رواياته: أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنبر -ونعلم بأن المنبر ما صنع إلا في السنة الثامنة من الهجرة- وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب اتكأ على جذع من جذوع النخل التي كانت بداية لبناء المسجد، وبعد خيبر وسع النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، وبنى جدرانه من الحجر والطين، وصنع له المنبر فتحول إليه -وقصة الجذع معروفة- وكان من ثلاث درجات، والكبرى عريضة، فوقف على الثالثة واستقبل القبلة وكبر وهو مستقبل القبلة، فقرأ وركع ورفع من الركوع وهو على المنبر، ثم نزل القهقرى عن الدرجتين الأخريين حتى كان في أصل المنبر ووسع لنفسه قدر السجود فسجد في أصل المنبر، ثم جلس ثم سجد ثم نهض فرقى المنبر وقرأ ورفع، ثم نزل القهقرى وسجد وجلس وسجد وتشهد وسلم، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
هل يحتاج أحد بعد هذه الصورة والمشاهدة أن يسأل عن كيفية الصلاة؟ لا يحتاج.
ومن هنا يقول العلماء: هذا الحديث أصل في الصلاة، فكل ما روي عنه صلوات الله وسلامه عليه في كيفية تلك الصلاة المنبرية -إن صح أن نسميها كذلك- أو غيرها من أحوال الصلاة، والمنبر ليس شرطاً، فما رأيتموني أفعله في الصلاة فافعلوا مثله، فيقولون: كل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته فهو واجب، اللهم إلا إذا جاء ما يرفع الوجوب إلى الندب، والقاعدة الأصولية: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم له سبع حالات كما هو مذكور في مذكرة الأصول وتسهيل الوصول إلى علم الأصول، وكتب الأصول كلها تقول: إذا كان الفعل بياناً لمجمل في كتاب الله فحكم الفعل حكم الحكم المجمل في كتاب الله، إن كان مُبيناً لواجب فالبيان واجب، وإن كان مبيناً لمندوب فالبيان مندوب، والصلاة واجبة، وهذا العمل مُبين للمجمل هناك في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:٤٣] ، أقيموا الصلاة على أي صفة؟ هناك أشياء: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:٤٣] {طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:١٢٥] ، ولكن: نسجد أولاً أم نركع أولاً؟ وكيفية الركوع والسجود ما هي؟ وكم نصلي ركعات؟ جاءت السنة وبيّنت لنا الأوقات والعدد والهيئة والكيفية وما نقول فيها، إذاً: البيان الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حق الصلاة يكون حكمه حكم الصلاة ما لم يكن هناك صارف عن الوجوب.
ورأينا للنبي صلى الله عليه وسلم مغايرات بين الفرض والنافلة؛ قد نجده يصلي النافلة جالساً ولا يصلي الفرض إلا قائماً، قد نجده في حالات السفر يخفف الصلاة أو يطيلها، ويدخل بالجماعة بنية التطويل ثم يخفف رحمة بقلوب الأمهات.
إذاً: قراءته، تسليمه، كل ما جاء ونقل لنا عنه صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ فهو واجب ما لم يأت صارف يصرفه عن الوجوب.
وبعض العلماء يربط بين هذا الحديث في عمومه وبين حديث المسيء في صلاته في جملته، وأعتقد أنه لا حاجة إلى الربط بينهما، والقاعدة العامة: كل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في أفعال الصلاة يجب أن نأخذها بالوجوب، فإذا كان يبدأ الصلاة بالله أكبر، فافتتاحية الصلاة بالتكبير، ولا يجوز غيرها؛ لأنه افتتحها بها، وإن كان يسكت هنيهة بعد التكبير والقراءة أحياناً ويترك السكوت، إذاً: السكتة الهنيهة ليست بواجبة إنما يمكن أن يأخذ بها ويمكن أن يتركها؛ لأنها غير مضبوطة، وقد يطول أو يقصر، بعد هذا كان يقرأ الفاتحة، إذاًَ: الفاتحة واجبة، وكان يقرأ السورة من القرآن إذاً: هي واجبة، ولكن وجدنا الصارف عنها، ثم اقرأ ما تيسر، وما تيسر هذا يصرف عن الوجوب، وإذا لم يتيسر فلا شيء عليك، إذاً: وجدنا هناك مفارقة بين الفاتحة وبين ما يقرأ معها في ركعة، إذاً: الركوع واجب، رفع من الركوع، إذاً: الرفع واجب، اطمأن في الركوع اطمأن في الرفع، إذاً: الطمأنينة واجبة، وجاء عنه ذكر في رفعه وركوعه، وجاءت روايات أخرى متعددة من الأذكار، إذاً: تتخير منها ما شئت، وهكذا إلى أن تسلم من الصلاة.