هذا الموضوع فتح على الناس أبواباً أخرى، فقالوا: لا يجوز أن يبيع الحطب الزائد، ولا الكلأ الموجود في أرضه، فلا يمنع غيره من أن يرعاه، إذا كان زائداً عن حاجته، واستدلوا بحديث:(الناس شركاء في ثلاث) ، وقامت فتنة الاقتصاد على هذا الحديث ممن جهله.
والتحقيق: أن الناس شركاء -صحيح- في الماء، والنار، والكلأ، والنار يتبعها الحطب، لكن شركاء في ما هو عام، الآن في الوقت الحاضر، في الشعاب، والوديان، لكل واحد منا أن يقول: الناس شركاء، من شاء فليذهب فليحتطب، وما احتطبه فهو له، ولا يمنع أحد أحداً؛ لأنهم شركاء فيه، ومن سبق إلى شيء أخذه، ولكن بعد أن يحتطب ويحوزه هل تأتي وتقول: أحضر نصف الذي عندك، أنا شريكك؟! أنا قائم من الليل، أجمع الحطب، وأكسر، وأحزم، وأحمل، وأمشي، وأنت قاعد في بيتك، فتأتي وتقول: أنا شريك معك! لا يمكن هذا أبداً.
والشاب الذي جاء يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة، فوجده جلداً قوياً، فقال: يا هذا! الصدقة لا تحل لك، قال: ما عندي شيء، أنا وعجوز في البيت لا نمتلك إلا حلساً نفترش نصفه، ونلتحف بالنصف الثاني، وقعباً نأكل ونشرب فيه، قال: عليَّ بهما.
فباعهما صلى الله عليه وسلم بدرهمين -في المسجد- وقال: خذ هذا الدرهم واشتر طعاماً واجعله عند أمك، وهذا الدرهم اشتربه فأساً وحبلاً وائت، ثم جعل عوداً في الفأس وقال: اذهب فاحتطب، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، احتطب وبع، هذا الذي يحتطب ويأتي ويبيع، يبيع ما يملكه أو ما لا يملكه؟ هل لأحد أن يقول: أنا لي نصف ما احتطبتَ؟ لا، أنت وهو شركاء في الحطب ما دام في موقعه، لكن إذا حازه وجمعه وحزمه، فليس لك فيه حق، وهؤلاء الذين كانوا ينادون بالإشتراكية، هل أحد منهم يسمح لإنسان أن يدخل بيته ويأخذ كأساً من الماء؟! فقد كانوا يبيعون الماء والنار، فمصلحة المياه، تضع العداد باللتر، والكهرباء -وهي نار- العداد يعد عليه بالفولت، والفحم كانوا يبيعونه، ولم يشركوا الناس ولا في واحد من ذلك؛ لماذا؟ لأنه في حيازتهم.
إذاً: قوله: (شركاء) إنما هو في ما كان في موطنه وموقعه، أما بعد أن حازه، وأصبح في يده وملكه، فليس لأحد فيه شراكة.
فهنا النهي عن بيع فضل الماء، وأدخلوا معه:(الناس شركاء في ثلاثة) ولكن هذا ليس بصحيح، فإنما يراد بذلك الإرفاق، مع اتفاق الجميع: بأن من باع البئر فإن البيع صحيح، والماء تبع للبئر، فـ رومان لما باع نصف البئر كان له نصف الماء تبعاً، إذاً: بيع مكان الماء، ومجرى الماء، ومحتوى الماء، جائز.
إذاً: جرم الماء السائل الشفاف هو الذي لا يباع، وإذا زاد عن حاجتك فأعطه لغيرك، ولكن هذا من باب الإرفاق، وليس من باب الوجوب، فلو كان الماء جارياً في الوادي، ويمر على بلدك، أو على مزرعتك، فخذ حاجتك، ولا تبع الباقي، ولكن أرسله إلى من وراءك، وهكذا لو وجدت غديراً في الأرض: حفرة بها ماء، وليست ملكاً لك، فلا تملك أن تبيعها، ولو كانت في ملكك فلا تمنع أحداً يحتاج أن يأخذ الماء ما دام زائداً عن حاجتك.
ولـ ابن القيم رحمه الله زيادة بحث في هذا الموضوع، والله تعالى أعلم.